أخبار عالمية

البعد الغائب: قراءة سوسيولوجية في الحرب الإسرائيلية الإيرانية

 

 

 

 

 

 

 

د. قياتي عاشور

مدرس علم الاجتماع السياسيجامعة بني سويف

 

 

 

شهدت العلاقات بين إيران وإسرائيل منذ يونيو 2025، تصعيدًا غير مسبوق؛ حيث نفذت إسرائيل عملية عسكرية أُطلق عليها اسم “الأسد الصاعد” مستهدفة قدرات إيران العسكرية بمختلف مجالاتها كما استهدفت منشآت نووية إيرانية، مثل موقع نطنز في أصفهان، ومصانع صواريخ باليستية، وقواعد عسكرية، وهو ما أسفر عن مقتل قادة بارزين في الجيش والحرس الثوري،(1) وعليه ردت إيران بعملية “الوعد الصادق3″، أطلقت خلالها أكثر من 531 صاروخًا باليستيًا و600 طائرة مسيرة على مدن إسرائيلية مثل تل أبيب وحيفا وبئر السبع، وهو ما تسبب في مقتل وإصابة العشرات.(2)

ومن منظور علم الاجتماع السياسي، يتجاوز هذا الصراع البعد العسكري ليعيد تشكيل العلاقات بين الدولة والمجتمع، ومؤثرًا على الهويات الوطنية الداخلية وفي المجال العام الإقليمي، وفي ضوء ذلك يعتمد هذا البحث على إطار يورغن هابرماس للمجال العام، الذي يرى أن الفضاءات العامة تتشكل من خلال الحوار العقلاني النقدي، لكنها قد تتحول إلى ساحات للصراع الرمزي وربما العسكري في أوقات الأزمات.

ويُعرّف هابرماس المجال العام بأنه “حيز من الحياة الاجتماعية يمكن من خلاله تشكيل ما يقترب من الرأي العام”، ويتضمن أربعة شروط أساسية لتشكله: إتاحة حيز للأفراد يمكنهم من المناقشة والحوار حول القضايا الهامة على مبدأ المساواة، وأن يكون هناك مجال عام واحد شامل يربط بين جميع الأفراد في المجتمع، وأن تكون القضايا المطروحة تُناقش بناءً على أهميتها بصرف النظر عن المكانة الاجتماعية للمشارك، وألا تكون هناك قيود من السلطة السياسية تحد من العملية التفاعلية داخل المجال العام (3). وفي ضوء ذلك، يهدف هذا البحث إلى تحليل تأثير التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل على الهويات الوطنية، والتغيرات الاجتماعية المؤثرة على العلاقات بين الدولة والمجتمع في البلدين.

أولًا: الهوية الوطنية والتعبئة القومية

وفقًا لنظرية هابرماس، فإن التحول الجوهري في المجال العام يحدث من كونه فضاءً للحوار العقلاني-النقدي إلى ساحة للصراع الرمزي عندما تهيمن المصالح الاستراتيجية على الفعل التواصلي، وهذا التحول يقوض الشروط الأساسية للمجال العام المثالي التي تتطلب التواصل الحر من الإكراه والقدرة على تشكيل رأي عام قائم على الحجج العقلانية وليس على التلاعب العاطفي.

وعند النظر إلى طبيعة الصراع بين إيران وإسرائيل وبعيدًا عن استهدف الصواريخ الإسرائيلية والإيرانية منشآت ذات طابع استراتيجي، تتكشف ملامح أزمة أعمق في الداخل الإيراني والإسرائيلي، تتعلق بطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبالبنية الاقتصادية والاجتماعية التي لم تعد قادرة على امتصاص الصدمات؛ حيث تترك الصراعات والحروب آثارًا كبيرة على مستويات عدة تتجاوز الضرر المادي، في حين أن العواقب المباشرة للحرب، من خسارة للأرواح وإصابات وإعاقات ونزوح، قد تكون واضحة، إلا أن الآثار على النسيج المجتمعي التي ما تكون أكثر عمقًا وطويلة الأمد، لا يتم الالتفات إليها إلا في فترات لاحقة، فعندما تواجه المجتمعات أهوال الحرب والصراعات، فإن التأثيرات المتلاحقة لكل هذه الخسائر يمكن أن تُغيِّر بُنية المجتمعات وكذلك قيَمها وسلوكياتها، ويمكن أن تمتد هذه التغييرات للانتقال عبر الأجيال.

كما يعزز الصراع الهويات الوطنية في كلا البلدين من خلال تعبئة رمزية. ففي إيران، يستخدم النظام خطاب “المقاومة” ضد إسرائيل لتعزيز الهوية الإسلامية والقومية، والحفاظ على مكانتها كقوة إقليمية، مصورًا إسرائيل كتهديد وجودي.(4) وهذا الخطاب يوحد المجتمع مؤقتًا، خاصة في ظل استياء شعبي بنسبة 90% في 2023 بسبب الأزمات الاقتصادية.

على الجانب الآخر، يُصور التهديد الإيراني في إسرائيل كخطر على بقاء الدولة اليهودية، وهو ما يعزز الوحدة الوطنية في مجتمع منقسم سياسيًا. وبحسب هابرماس، يتحول المجال العام إلى ساحة للصراع الرمزي، حيث تُستخدم الروايات القومية لتعزيز التماسك على حساب الحوار العقلاني.(5) وقد عزز التصعيد العسكري في يونيو 2025 هذه الديناميكيات؛ حيث أظهرت استطلاعات الرأي في إسرائيل دعمًا واسعًا للضربات، مع تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو التي تُؤكد “ضرورة حماية الدولة اليهودية”. وفيما يتعلق بإيران، استخدم المرشد الأعلى علي خامنئي الهجمات الإسرائيلية لتعبئة الجماهير ضد “العدو الصهيوني”، وهو ما عزز شرعية النظام مؤقتًا. إلا أن استمرار الخسائر كشف عن انقسامات بين مختلف المكونات كالشباب والأقليات الإثنية بسبب الإحباط الاقتصادي والسياسي.(6)

ثانيًا: العلاقات بين الدولة والمجتمع

يعيد الصراع تشكيل العلاقات بين الدولة والمجتمع في البلدين؛ حيث تتداخل الأبعاد الأمنية مع بناء الهويات الوطنية والتعبئة السياسية. وعند النظر إلى ديناميات الصراع الإسرائيلي- الإيراني نجد أنه هذه التحولات تتجسد في مجريات وتطورات هذا الصراع؛ إذ يستخدم كلا النظامين المجال العام لتعزيز شرعيتهما عبر خطاب قومي مقاوم، مع قمع الأصوات المعارضة لاسيما في الجمهورية الإيرانية.

وفي هذا السياق؛ يميز هابرماس بين نوعين من الشرعية: الشرعية الديمقراطية الحقيقية القائمة على “القوة التواصلية” التي تنبثق من المجال العام كتعبير مستقل عن الرأي العام، والشرعية الزائفة التي تعتمد على التلاعب والسيطرة. في أوقات الأزمات والصراعات، تلجأ الأنظمة إلى ما يسميه هابرماس “إعادة الإقطاعية” حيث يتحول المجال العام من فضاء للنقاش العقلاني إلى مسرح لعرض القوة والتأثير، وهو ما يقوض أسس الشرعية الديمقراطية الحقيقية.(7)

وعلى المستوى العملي، تتجه إسرائيل إلى توظيف العمليات العسكرية الإيرانية لتشتيت الانتباه عن الأزمات الاقتصادية والاحتجاجات المستمرة منذ أكثر من عام.(8) حيث يستخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الصراع لتوحيد المجتمع، مصورًا العملية كـ”ضرورة للبقاء”. لكن الخسائر الناتجة عن الصواريخ الإيرانية تثير تساؤلات حول فعالية الاستراتيجية العسكرية، وما قد يؤدي إلى تنامي الانقسامات الداخلية.(9)

وبالنسبة لإيران؛ حيث يعاني المجتمع من ضغوط العقوبات، فقد تعهد خامنئي برد مؤلم يعكس محاولة لتعبئة الدعم الشعبي. ومع ذلك، كشفت الضربات عن ضعف النظام، خاصة مع انقطاع خدمات الإنترنت واستخدام ستارلينك من قبل الناشطين.

وضمن السياق ذاته، تبدو إيران في سياق حربها مع إسرائيل، كدولة تواجه اختبارًا مزدوجًا والمتمثل في التهديد الخارجي المتنامي، والتصدع الداخلي المتراكم خاصة أن هذه الحرب لا تجري في ضوء وجود بنية اجتماعية مستقرة بل في ظل بيئة اقصائية وتهميش جغرافي وإثني ومناخ من عدم اليقين بشأن اتجاهات تعامل النخبة الحاكمة بين اتجاهين، أحدهما يراهن على مشروع “دولة المقاومة” بوصفه إطارًا للشرعية، والآخر يجنح نحو “دولة البقاء” كمظلة لتفادي الانهيار.(10)

وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن الصراع العسكري يُستخدم كأداة لتعزيز السلطة الداخلية، لكنه يكشف أيضًا عن توترات داخلية، ففي إيران، فرضت الحكومة قيودًا مشددة على الحريات المدنية، بما في ذلك مراقبة الاتصالات.(11) كما برزت احتمالات عن صعود التيارات الفكرية الأصولية وإضعاف الرؤى الإصلاحية ليس فقط على مستوى السياسة الخارجية، بل على مستوى التفاعلات الداخلية، وهو ما عزز حالة الاستياء بين الشباب والمرأة والأقليات.(12)

على الجانب الآخر، بينما يدعم الجمهور الإسرائيلي الضربات العسكرية، هناك أصوات معارضة تخشى من التداعيات طويلة الأمد، وهو ما يُشير إلى تنامي الانقسامات الداخلية في حال استمرار الصراع، وفي ضوء ذلك، تشهد إسرائيل مؤشرات تتزايد على اختراق الإجماع الشعبي تجاه الحرب على إيران، وسط انتقادات من الأطراف اليسارية، في وقت تتعرض فيه الجبهة الداخلية لضغوط متصاعدة بسبب الهجمات الإيرانية المتكررة، وتصاعد مخصصات الإنفاق العسكري، وغياب أي أفق زمني لإنهاء المواجهة العسكرية.

وقد تسبب التصعيد في ظهور مؤشرات على تفكك الداخل الإسرائيلي وظهور سرديات اجتماعية متناقضة. فقد استمر الإعلام الرسمي في تغطية الأحداث بمنطق التعبئة الوطنية، مع التركيز على “التهديد الوجودي” الإيراني لتعزيز الوحدة الداخلية.(13)

وفي المقابل، ظهرت على المستوى المجتمعي تساؤلات وانتقادات، خاصة من أطراف يسارية هامشية لكنها آخذة في الاتساع، حول جدوى الحرب وسط غياب رؤية سياسية أو عسكرية واضحة (14) ويختلف الوضع الحالي عن الحرب على غزة (2023-2024)؛ حيث كانت الخسائر تقتصر على الجنود، بينما تطال الضربات الإيرانية اليوم مدنيين والمنشآت السكنية والمدنية.(15) وهذه الخسائر، إلى جانب تقديم أكثر من 36,465 طلب تعويض لأضرار المباني والمركبات والمعدات، زادت من الضغوط الاقتصادية على المجتمع الإسرائيلي.(16) علاوة على ذلك، برزت سردية تشير إلى أن إسرائيل تخوض الحرب دون استراتيجية محددة، وهو ما جعلها رهينة لمواقف خارجية، لا سيما الموقف الأمريكي الذي لعب دورًا حاسمًا في فرض وقف إطلاق النار في 24 يونيو 2025، وسط انتقادات داخلية لاعتماد إسرائيل على الدعم الأمريكي دون رؤية مستقلة.(17)

وضمن السياق ذاته، برزت اتجاهات متباينة للرأي العام داخل كل من إيران وإسرائيل؛ ففي إيران نظرت شريحة كبيرة من المواطنين إلى هذه الحرب باعتبارها ليست حربًا معهم ولكنها حربًا مع النظام السياسي، وهناك مجموعة من العوامل التي ساهمت في ظهور هذا التوجه بعضها يتعلق بالسياسات المتراكمة للنظام الإيراني السياسي، قمع وتهميش والبعض الأخر يتعلق بالخطاب الإسرائيلي الموجه إلى الشعب الإيراني، فلم تستهدف العملية العسكرية الإسرائيلية العمل على وقف أو تفكيك البرنامج النووي الإيراني فهناك عامل أكثر أهمية يتمثل في تغيير بنية النظام السياسي وهو الأمر الذي ظهر خلال توجيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رسائله إلى الداخل الإيراني مطالبًا الشعب الإيراني بالخروج على النظام الحالي وإسقاطه، ويؤشر على ذلك اتجاه إسرائيل إلى استهداف التركيبة الداخلية من خلال إحداث انشقاقات بين التيارين الإصلاحي والأصولي من جانب ومن جانب آخر، تأليب الشعب الإيراني في ضوء هذه الانقسامات على رفض النظام برمته، ولعل هذا الأمر يرتبط بالأهداف السياسية للحرب الإسرائيلية على إيران وليس العسكرية، وما يعزز من هذا الافتراض يتمثل في اتجاه إيران إلى التسريع بوتيرة الاستهداف والردع لمواجهة هذه الهجمات وتصدير هذه الأحداث إلى الشعب الإيراني بأن هذه الهجمات لا تستهدف النظام السياسي ولكن مقدرات الشعب الإيراني والتدليل على ذلك من خلال استهداف إسرائيل لمصافي وحقول النفط الإيرانية. وهو ما أدركته إيران وتواجهه على مختلف المستويات الاجتماعية. ويمكن القول هنا إن اتجاهات هذه الشريحة من المواطنين يستند على أن الصمت على العمليات العسكرية، لا يتعلق بالتوافق مع إسرائيل، بل استنادًا على كراهية النظام الإيراني وسياساته.(18)

ويأتي هذا التصور في ضوء أن الشعب الإيراني ومن مختلف المكونات السياسية والدينية والعرقية يدرك أبعاد الخلاف الإيراني داخل النظام الإقليمي والدولي، وأن النخبة الحاكمة تعمل على تحويل هذه الأزمة من استهداف النظام السياسي إلى السيطرة على المكونات الاجتماعية، وهو ما أدى إلى ظهور اتجاهات لتمكين المكونات الاجتماعية والسياسية الأخرى بناء نظام سياسي جديد.

وبصورة أكثر اتساعًا، يمكن تقسيم اتجاهات الرأي العام الإيراني إلى مجموعة من الشرائح التي تنوعت بين الانقسامات الأفقية والعمودية، فهناك اتجاه يرى بضرورة التخلص من النظام السياسي الحالي وإيجاد آخر مغاير يعبر على مختلف مكونات الشعب الإيراني مثل أنصار المرحلة الملكية وشبكة مجاهدي خلق وبعض الشخصيات المستقلة من مختلف المجالات، في حين برز اتجاه آخر يرى بضرورة مساندة السلطة السياسية في حربها لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية والأمريكية، بالإضافة إلى ذلك لم تصدر الأقليات القومية والعرقية والدينية أي تعليق سلبي أو إيجابي على الرغم من تعرض مناطق تواجدهم للاستهداف، وقد فسرت بعض التحليلات أن انتهاج مثل هذا السلوك المحايد وعدم انتقاد السلطة جاء نتيجة المخاوف المتصاعدة من توجيه الاتهامات بالخيانة في وقت الحرب.(19)

وبالنسبة لإسرائيل، وفي إطار تفسير اتجاهات ومكونات المجتمع الإسرائيلي بشكل أعمق، يجب أن نبدأ بتحليل تركيبته المعقدة والمليئة بالانقسامات الاجتماعية والدينية، خاصة أنه بينما تواصل إسرائيل عرض قوتها العسكرية على جبهات مختلفة، يكمن الخطر الأكبر في الداخل؛ حيث بدأت التصدعات العميقة تهدد بقاء الدولة التي لطالما وصفت بالقوة والاستقرار، وتحول الصراع من سياسي محتدم إلى اضطرابات اجتماعية وانهيار اقتصادي، وبالتالي يبدو أن البنية الاجتماعية للنظام الإسرائيليّ تتآكل بوتيرة أسرع مما يمكن إصلاحه.

وقد قادت الاضطرابات والاحتجاجات الداخلية الممتدة منذ رفض خطة الإصلاح القضائي، وعملية طوفان الأقصى وما تلاها من حرب مع حزب الله والحوثيين في اليمن والتدخل في سوريا وأخيرًا الحرب مع إيران إلى حالة استنزاف سياسية لإسرائيل وتآكل شرعية الحكومة الداخلية في ظل ما تواجهه من أزمة بنيوية؛ إذ فشلت في تجاوز مسألتَي حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني، وإقامة رؤية قومية جامعة تحتوي تناقضات الجماعات المتنوعة التي أفرزها تطور مجتمع المهاجرين بعد هيمنة تيار الصهيونية المؤسسية.

وضمن السياق ذاته، يوجد في إسرائيل العديد من الانقسامات المبنية على أكثر خلفية، وكل انقسام يحمل بطياته العديد من الدلالات الخاصة به وبشكل الدولة وطابعها؛ فإسرائيل لم تتشكل وفقًا لحالة تطور طبيعية، بل بفعل حالة حرب وتجميع لليهود من مختلف أنحاء العالم ولم يكن بينهم أية صلات تجمعهم سوى إيمانهم بالمشروع الصهيوني.

وعلى الرغم من ذلك، فهناك تعدد في مستويات الانقسام المجتمعي الأفقي والعمودي وحول القضايا وأولويات كل طرف، فهناك الانقسامات القائمة على التوتر الديني مثل اليهود المتشددين دينيًا (الحريديم) وبين الفئات اليهودية العلمانية، وهو ما انعكس بشكل كبير على الدولة في الكثير من مناحي الحياة؛ فقد حظي موضوع الانقسام الديني في إسرائيل على اهتمام كبير، ولا سيما على خلفية التطورات التي يشهدها مجتمعهم، ونمو التيار الديني اليهودي المتزايد وانتشاره جغرافيًا كما إن التوتر الذي يطغى على طبيعة العلاقات بينهم وبين شرائح متنوعة في المجتمع الإسرائيلي، وكذلك بينهم وبين مؤسسات الدولة والتي ترتكز على الصراع بين الطرفين على طبيعة المجتمع الإسرائيلي بصورة عامة. بالإضافة إلى الانقسام والتوتر الإثني نظرًا لتعدد أصول المهاجرين اليهود، وهو ما عزز من الخلافات بينهم داخل المجتمع الإسرائيلي.(20)

كما أن هناك الانقسام القائم على الأساس الأيديولوجي السياسي؛ حيث برزت الاختلافات بين التوجهات السياسية للمكونات الاجتماعية المختلفة، لكل منها تصور ونهج خاص ذو ملامح مغايرة عن باقي التوجهات في الكثير من السياسات والإجراءات، ولا سيما التصور الخاص لهذه التوجهات والأيدولوجيات حيال مسألة حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والموقف من إيران وكذلك بالنسبة إلى ترسيم ملامح المجتمع الإسرائيلي الداخلي.

ولعل تضارب اتجاهات الرأي العام الداخلي فيما يتعلق باتجاهات التعامل مع مختلف القضايا يشير إلى

أزمة ثقة عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي؛ حيث يتباين التصور حول فاعلية السياسات الأمنية ومدى تأثيرها على الاستقرار الداخلي، ومن هنا، فإن تراجع التأييد ليس مجرد رد فعل على الأداء العسكري، بل يعكس أيضًا الاستياء من الأداء الحكومي في إدارة الشئون الداخلية، وهو ما يشير إلى ضعف الاتصال بين الحكومة والشعب. ومع وجود هذا التنوع، تتزايد الانقسامات بين الفئات المختلفة بما يعمق التوترات الداخلية فالصراع لا يقتصر على التهديدات الخارجية، بل يمتد إلى داخل المجتمع اليهودي نفسه، وهو ما يزيد من تعقيدات المشهد الداخلي، كما يعكس هذا التباين تنوع وجهات النظر حول السياسات المقترحة، وكيفية تأثيرها على الفئات المختلفة داخل المجتمع الإسرائيلي، فالتعقيدات الاجتماعية في إسرائيل تتجاوز الخلافات السطحية، فهي تعكس توازنات داخلية هشّة تعتمد على بقاء نظام سياسي قادر على احتواء الغضب الشعبي. لكن مع تزايد هذه الانقسامات، يبدو أن الصراع الداخلي قد أصبح أكثر خطورة من التهديدات الخارجية؛ حيث يواجه المجتمع الإسرائيلي ضغوطًا متزايدة تهدد تماسكه الاجتماعي.(21)

وفي ضوء معالجة الاختلالات الاجتماعية التي ظهرت بفعل الحرب الإسرائيلية الإيرانية، استمرت الدعاية الإسرائيلية في وصف النظام الإيراني بالفاشي الذي يهدف إلى إبادة الدولة اليهودية من خلال شيطنة إيران ووكلائها في المنطقة، كما ارتكزت على ضرورة استهداف المشروع النووي الإيراني وتضخيم مخاطره باعتباره أولوية حيوية في محاولة لاستعادة وحدة وتماسك الداخل وانقساماته على مختلف المستويات والطبقات والفئات واتجاهات وأولويات القضايا المرتبطة بكل فئة.

ومن ثم يمكن القول إن هناك تعدد لمستوى الأبعاد الاجتماعية للحرب بين إسرائيل وإيران سواء عندما يتعلق الأمر بدراسة تأثير الصراع على تركيبة المجتمع ونسيجه وثقافته ومن خلال إعادة تعريف الهياكل الاجتماعية والتقليدية وعلاقات المكونات الداخلية في المجتمع سواء على مستوى الفرد والأسرة والتنظيمات والمكونات الاجتماعية الأخرى. وفي ضوء ذلك، يُؤكد هابرماس أن المجال العام في أوقات الحرب يصبح أداة لتعزيز شرعية النظام عبر خطابات قومية، لكنه يفقد وظيفته كفضاء للحوار العقلاني. ففي إيران، يُقمع المجال العام عبر الرقابة، وهو ما يعوق تشكيل رأي عام نقدي. وفي إسرائيل، يتحول المجال العام إلى ساحة للصراع بين روايات الوحدة الوطنية والانتقادات اليسارية، وهو ما يعكس هشاشة التماسك الاجتماعي.

ثالثًا: اتجاهات الرأي العام والإعلام

تأثر الرأي العام في كلا البلدين بنتائج الحرب؛ حيث تصاعدت مشاعر الخوف والقلق، لكن أيضًا زادت مظاهر التضامن الوطني؛ ففي إسرائيل، أظهرت استطلاعات الرأي دعمًا واسعًا للعمليات العسكرية رغم الخسائر، مع تغطية إعلامية تركز على تهديدات إيران وقدرة الدفاع الإسرائيلي.(22) وفي إيران، ركز الإعلام الرسمي على إبراز الانتصارات والردود الصاروخية لردع الهجمات الإسرائيلية، بينما حاولت بعض الأصوات المعارضة تسليط الضوء على الخسائر المدنية وتأثير الحرب على المجتمع.(23) أما على المستوى الإقليمي، فقد أثرت الروايات الإعلامية على مواقف الدول العربية؛ حيث شهدت المنطقة انقسامات بين مؤيد لإيران ومعارض لها، وهو ما يعكس تعقيد الصراع وتداخله مع الانقسامات الطائفية والسياسية.

ويصف هابرماس في نظريته حول “التحول البنائي للمجال العام” كيف أن وسائل الإعلام الجماهيرية تحول الجمهور النقدي إلى جمهور مستهلك سلبي. وهذا التحول يحدث من خلال ثلاث عمليات: الرقمنة التي تخلق “فقاعات المرشحات” وتقسم المجال العام، والتسليع الذي يخضع تشكيل الأجندة لمنطق السوق، والعولمة التي تؤدي إلى تفكك الإطار المرجعي الوطني، ولعل هذه العمليات تضعف من قدرة المجال العام على أداء وظيفته الديمقراطية كوسيط بين الدولة والمجتمع.

ومن جانب آخر، تعزز منصات التواصل الاجتماعي، مثل إكس، هذه الروايات، وهو ما يؤدي إلى حدوث استقطاب في المنطقة العربية بين مؤيد لإيران كرمز للمقاومة ومعارض يراها تهديدًا للأمن الإقليمي. (24) ووفق منظور هابرماس، يتحول المجال العام الداخلي من فضاء للحوار إلى ساحة للصراع الرمزي، وهو ما يحد من إمكانية الحوار البناء إقليميًا ودوليًا.

وقد كشفت الحرب عن وجود انقسامات في اتجاهات الرأي العام داخل البلدين، وهو ما عكس فشل الخطابات الرسمية في خلق إجماع وطني كامل، ففي إيران، برز اتجاه شعبي واسع ينظر إلى الحرب باعتبارها صراعًا يخص النظام السياسي وليس الشعب. وقد تغذى هذا الانقسام على تراكم المظالم الداخلية من قمع وتهميش، واستثمره الخطاب الإسرائيلي الذي سعى مباشرة لتحريض الإيرانيين على إسقاط النظام.

وفي إطار مواجهة هذه التداعيات، حاولت السلطة الإيرانية حشد الدعم بتصوير الهجمات على أنها تستهدف مقدرات الأمة (كالمنشآت النفطية)،(25) وليس النظام فقط. ونتج عن ذلك مشهد رأي عام منقسم بين مؤيد للدولة في مواجهة العدوان، ومعارضة صامتة أو فاعلة تأمل في أن يضعف الصراع النظام، فيما التزمت الأقليات الحذر لتجنب اتهامها بالخيانة.

وفيما يخص إسرائيل، أظهرت الحرب عمق التصدعات الاجتماعية التي فشلت السردية الإعلامية الرسمية في احتوائها. فعلى الرغم من أن الدعاية الإسرائيلية صورت إيران كـ”خطر وجودي” لتوحيد الجبهة الداخلية، إلا أن هذه السردية بدأت تفقد تأثيرها. ويعود ذلك إلى أن الحرب لم تعد تقتصر على خسائر عسكرية بعيدة، بل أصبحت تصيب المدنيين مباشرة وتثقل كاهلهم اقتصاديًا، مع غياب رؤية سياسية واضحة لإنهاء الصراع. ونتيجة ذلك، برز شرخ بين الخطاب الرسمي الذي يركز على التعبئة، وبين سرديات مجتمعية ناقدة، خاصة من الأطراف اليسارية، تتساءل عن جدوى الحرب وتكاليفها الباهظة، وهو ما يعكس أزمة ثقة متنامية بين المجتمع وحكومته.(26)

في الختام: كشف الصراع الإسرائيلي- الإيراني عن تعقيدات اجتماعية وسياسية تتجاوز الأبعاد العسكرية؛ حيث أعاد تشكيل العلاقات بين الدولة والمجتمع وامتدت تأثيراته إلى الهويات الوطنية في كلا البلدين. واستنادًا على الطرح الذي قدمه هابرماس، نجد أن المجال العام تحول من فضاء للحوار إلى ساحة للصراع الرمزي الذي تم من خلاله استخدام الروايات القومية لتعزيز الشرعية السياسية على حساب الحوار النقدي. وفي إيران، عزز الصراع خطاب المقاومة، لكنه كشف عن هشاشة النسيج الاجتماعي أمام الأزمات الاقتصادية والسياسية. وفي إسرائيل، وحدت رواية التهديد الوجودي المجتمع مؤقتًا، لكنها أثارت انقسامات بين دعاة الحرب ومنتقديها. وعلي المستوي الإقليمي، أدى الاستقطاب عبر منصات التواصل إلى تعميق الانقسامات الطائفية والسياسية؛ حيث تبرز هذه الدراسة أهمية فهم التداعيات الاجتماعية للصراعات العسكرية ودورها في تشكيل المجتمعات والتعامل مع الانقسامات الداخلية، ليس فقط عبر الخسائر المادية، بل من خلال تغيير القيم والهويات عبر الأجيال. وفي ظل استمرار التوترات، يبقى السؤال: هل يمكن للمجال العام أن يستعيد دوره كفضاء للحوار العقلاني، أم أن الصراعات الرمزية ستظل تُهيمن على المشهد الإقليمي؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى