
إعداد: جابر غنيمي دكتور في القانون المساعد الأول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد مدرس جامعي
استغلال موظف عمومي لصفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها
بنص الفصل 96 م ج ” يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي قيمة المنفعة المتحصل عليها أو المضرة الحاصلة للإدارة الموظف العمومي أو شبهه وكل مدير أو عضو أو مستخدم بإحدى الجماعات العمومية المحلية أو الجمعيات ذات المصلحة القومية أو بإحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية أو الشركات التي تساهم الدولة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنصيب ما أو الشركات التابعة إلى الجماعات العمومية المحلية مكّلف بمقتضى وظيفه ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ أي مكاسب استغلّ صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيب المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة أو إلحاق الضرر المشار إليهما”
ونشأ الفصل 96 خلال سنة 1985 بمقتضى القانون عدد 85 المؤرخ في 11 أوت 1985.
و تقوم هذه الجريمة عند توفر جملة من الأركان )الفقرة الأولى( و يرتب القانون عليها جزاء )الفقرة الثانية(
الفقرة الأولى: أركان الجريمة
و تتمثل في الأفعال محل التجريم )أ( و ركن المنفعة )ب(
أ- تحديد الأفعال محل التجريم:
يمكن القول أن جرائم الفصل 96 تستوجب توفر أحد أمرين وهما: الصفة أو مخالفة التراتيب .
- الصفة:
من البديهي ان الحديث عن استعمال الصفة يستوجب مبدئيا تحديد “الصفة” التي تجعل صاحبها تحت طائلة احكام الفصل 96 م ج. إذ أن استغلال الصفة يفترض بداهة توفر إحدى الصفات الوارد تعدادها بالفصل 96 م ج وأن يكون موضوع الاستغلال تلك الصفة بعينها لا غيرها من الصفات غير المعنية بالتجريم.
إذ تلعب الصفة دورا فعالا على مستوى قيام الجريمة من عدمه فهي ركن أولي لازم لتوفر بقية الأركان
وقد أشار المشرع إلى هذا الركن من جهتين:
صفة الموظف أو شبهه وكل مدير أو عضو أو مستخدم. (ركن الصفة(
2- مكلف بمقتضى وظيفته ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ أي مكاسب. (ركن الاختصاص أو استغلال الصفة(.
مفهوم الصفة:
لقد وقع التوسع الفصل 96 م ج في ركن الصفة بموجب تنقيح سنة 1985 سالف الذكر بإضافة ” وكل مدير أو عضو أو مستخدم بإحدى الجماعات العمومية المحلية أو الجمعيات ذات المصلحة القومية أو بإحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية أو الشركات التي تساهم الدولة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنصيب ما أو الشركات التابعة إلى الجماعات العمومية المحلية”.
ومن المستغرب ان يكون هذا التوسع خاص بفصلين فقط من الفصول المخصصة لجرائم الاستيلاء على الاموال العمومية و دون أن يشمل أيضا بقية ” الجرائم الواقعة من الموظفين العموميين أو المشبهين بهم حال مباشرة أو بمناسبة مباشرة وظائفهم” الواردة ضمن نفس الباب الثالث من المجلة الجزائية، فمفهوم الموظف وشبهه في الفصلين 96 و99 يتجاوز بكثير مفهوم الموظف وشبهه الوارد بالفصل 82 م ج وبقية الفصول التي تليه ومنها 95 و97 و100.
ورغم التوسع الحاصل في تعريف الموظف وشبهه ضمن الفصل 96 إلا أنه يمكن التساؤل هل يشمل هذا التعريف كلا من رئيس الجمهورية والوزير؟
وقد سبق لمحكمة التعقيب في قرارها المؤرخ في 3 مارس 1976 ان نفت عن رئيس الجمهورية صفة الموظف إذ أكدت أنه لا يعتبر رئيس الجمهورية موظفا عموميا حتى تنطبق عليه في حالة المسّ من كرامته أحكام الفصل 125 م.ج. “وحيث إن مقتضيات الفصل 125 م.ج تتعلّق بالأفعال التي يقصد منها هضم حرمة الموظفين العموميين ومن يشبه بهم الذين يدخلون في التعريف الذي ورد به الفصل 82 من المجلة المذكورة، فلا ريب أن ذلك التعريف لا يشمل بأية حال رئيس الدولة”.
أما بالنسبة للوزراء فيستخلص من أحكام القانون عدد 10 لسنة 1970 مؤرخ في 1 افريل 1970 والمتعلق بالمحكمة العليا ان المشرع خص أعضاء الحكومة أي الوزراء بنظام زجري خاص يتميز بما يلي: - هيئة محاكمة ذات طابع مختلط “سياسي جزائي”.
- عدم اعتبارهم موظفين عموميبن أو شبههم.
- يشترط في الجرائم المنسوبة اليهم درجة قصوى من الخطورة على أمن الدولة وسمعتها ومصالحها.
ويستخلص من جملة ما سلف أن المشرع افرد الوزراء بنظام مسؤولية خاص يتناسب وحجم وحساسية الأعمال والمهام المكلفين بها وما تحتمله من إمكانية وقوع في الخطأ ولم يدرجهم ضمن التعريف الجزائي للموظف العمومي. ويقتضي هذا النظام ان يخضع الوزراء للمسؤولية السياسية مبدئيا ويمكن بصفة استثنائية تتبعهم جزائيا في صورة ارتكابهم أفعالا خطيرة توصف بكونها خيانة عظمى مما يعني انهم لا يتمتعون بحصانة ولكنهم يخضعون لنظام جزائي يميزهم عمن دونهم ممن لهم صفة الموظف العمومي أو شبهه.
وبالاستناد إلى ما تقدم يمكن القول أنه رغم توفر شروط إعمال الفصل 96 م ج- بالنسبة للوزراء فإنه لا يمكن تتبعهم جزائيا إلا أمام المحكمة العليا أو بموجب المسؤولية السياسية. فالصفة الوزارية التي تقترن ببعض الصفات المجرمة تحول دون إمكانية التتبع الجزائي رغم ما يمكن أن يتسبب فيه أصحابها من استيلاءات تتجاوز حجمها وخطورتها تلك المرتكبة من طرف موظف عادي.
وبعد التأكد من توفر “ركن الصفة” يجب المرور إلى البحث عن مدى توفر “ركن الاختصاص أي استغلال الصفة”. - استغلال الصفة (ركن الاختصاص(:
توحي صياغة الفصل 96 م ج بضرورة السيطرة المباشرة على المال العمومي وبالرجوع إلى مداولات مجلس النواب يتبين أن الغاية من التجريم هي حماية المال العمومي من خلال زجر سوء التصرف فيه من قبل من يديره أو يتصرف فيه بشكل مباشر. ويبين هذا الشرط الوسيلة المعتمدة لارتكاب الجريمة والمتمثلة في استغلال الصفة الوظيفية وذلك بخرق القوانين المنظمة لها بالنظر للسلطة القانونية التي يتمتع بها الفاعل للتصرف في الأموال الموضوعة تحت يديه بحكم وظيفته.
فمن ضمن الافعال المجرمة بالفصل 96 م ج فعلين، يتمثل الأول في استغلال الصفة لاستخلاص فائدة غير مشروعة لنفسه أو لغيره، والثاني في استغلال تلك الصفة للإضرار بالإدارة. إذ وردت صلب المداولات عبارة :”المال الذي في يد فلان.” وهو ما عابه الفقهاء على المشرع معتبرين أنه “رغم أن القاعدة الأساسية في تأويل النصوص الجزائية تقتضي التأويل الضيق للنص الجزائي، فإن الاقتصار على اعتبار مجرد مسك الموظف للشيء ماديا دون غيره من شأنه أن يتعارض ونية المشرع وحكمة التجريم ولاستحال تطبيق النص المذكور إطلاقا من الناحية العملية.” فالمقصود باستغلال الصفة على معنى الفصل 96 م ج هو استعمال الصلاحيات التي يتمتع بها الجاني -بموجب تلك الصفة- لتحقيق مآرب شخصية على غرار الانحراف بالسلطة في المادة الإدارية الذي يعرّفه القاضي الإداري بأنه : “استعمال الإدارة السلطة والصلاحيات المخوّلة لها قانونا لا للصالح العام …قصديا.” - مخالفة التراتيب:
جاء في القرار التعقيبي الجزائي عدد 9161 المؤرخ في 12 جوان 2013: “وحيث بالرجوع الى اسانيد القرار المنتقد يتبين ان الدائرة التي أصدرته وجهت التهم على الطاعنين بناء على مخالفة التراتيب لتحقيق فائدة للغير واعتبرت ان الدليل الجامعي يرتقي الى صنف التراتيب وفي مخالفته تتوفر أحكام جريمة الفصل 96 م ج. وحيث يتعين منذ البداية تعريف النصوص الترتيبية حتى يتسنى لنا التأكد من كون الدليل الجامعي يرتقي لصنف التراتيب أم لا. وحيث عرف الفقهاء النصوص الترتيبية بكونها تتضمن قواعد عامة مجردة وملزمة صادرة عن الادارة ويتم تصنيف هذه التراتيب حسب ترتيب تفاضلي في هرم القواعد القانونية يعتمد معيار السلطة التي اتخذت القرار والاجراءات التي اتبعت لاصداره وعلى هذا الأساس نجد في المرتبة الاعلى في سلم القواعد الترتيبية الاوامر ذات الصبغة الترتيبية التي يتخذها رئيس الجمهورية ثم القرارات الترتيبية الصادرة عن الوزراء ثم قرارات الولاة ورؤساء البلديات وبقية السلط الادارية. وتجدر الاشارة ان التراتيب صنفان: أولا تراتيب تطبيقية تتخذ لتنفيذ القوانين وثانيا تراتيب مستقلة عن القانون تتخذ في شكل اوامر ترتيبية وتدخل في المجالات الخارجة عن المجال القانوني كما حدده الفصل 35 من الدستو ر المتخلى عنه وبناء على التعريف السالف الذ كر يمكن ان نستنتج ان للنصوص الترتيبية ما للقاعدة القانونية من احكام فهي قاعدة مجرد وملزمة . وحيث مما لا جدال فيه فان الصبغة الالزامية للقاعدة القانونية تستوجب النشر يالرائد الرسمي حتى يمكن تطبيقها على العموم . وحيت اعتبرت محكمة القرار المنتقد ان الدليل الجامعي يرتقي الى مرتبة الترايتب وذلك، بقولها:´´هنالك، خرق للتراتيب المنظمة لعملية التوجيه الجامعي”. وحيث وخلافا لما ذهبت اليه دائرة القرار المنتقد فان الدليل الجامعي لا يمكن ان يرتقي الى مرتبة التراتيب الادارية باعتباره لا يصدر في شكل امر او قرار او منشور من احدى السلط الحكومية او الادارية المبينة انفا ق باب التعريف بالنصوص الترتيبية فضلا على انه قابل للزيادة في عدد الاماكن المخصصة للشعب الجامعية كما انه لا ´ينشر بالرائد الرسمي ولم يمنحه المشرع صفة ترتيبة بموجب أي نص قانوني او ترتيبي اخر وبالتالى لا يندرج ضمن التراتيب التي يعاقب القانون على مخالفتها وبذلك يكون قرار الدائرة المنتقد قد جانب الصواب لما استنتج خلاف ذلك واصبح موجبا للنقض”.
ان أول ما يلفت الانتباه في قرار محكمة التعقيب أنه عرفت التراتيب “règlements” وحصرتها فيما يصدر عن السلطة التنفيذية من قواعد عامة مجردة منشورة في الرائد الرسمي. فهل أن عبارة تراتيب: يقصد بها فقط التراتيب الإدارية فعلا؟ اما أن المقصود بها مختلف القواعد القانونية المنظمة للعمليات الست المذكورة بالفصل 96 م ج؟
يمكن القول ان استعمل المشرع عبارة “التراتيب” التي تمثل موضوع المخالفة كان في غير طريقه. وكان حريّا به أن يستعمل عبارة “التشريع” باعتبار أن التراتيب مصدر من مصادر التشريع إلى جانب المصدر الثاني أي “القانون”، لكن عملا بنذمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات وما يقتضيه من ضرورة اعتماد التأويل الضيق للنص الجزائي فإنه لا يسعني إلا مسندة محكمة التعقيب في موقفها، مع أن جريان العمل في المحاكم يتجه نحو مفهوم واسع لعبارة تراتيب بحيث تشمل حتى مخالفة القانون. فمجال تطبيق الفصل 96 وقع التوسع فيه دون سند من القانون، ليشمل جميع القوانين والأوامر والقرارات والمناشير والمذكرات المتعلقة بالوظيفة أو التراتيب المنظمة لنشاط المؤسسة.
وتجدر الاشارة هنا الى ان تحديد وجود مخالفة للتراتيب من عدمه يرجع لدائرة المحاسبات دون سواها، إذ ضبط القانون عدد 8 لسنة 1968 المؤرخ في 8 مارس 1968 المتعلق بتنظيم دائرة المحاسبات الإجراءات الخاصة بالكشف عن المخالفات داخل الهيئات التى تساهم الدولة فى راس مالها والخاضعة لرقابة دائرة المحاسبات، وجاء بالفصل 3 من القانون المذكور ما يلي: ” تختص دائرة المحاسبات بالنظر في حسابات وتصرف: - الدولة والجماعات العمومية المحلية والمؤسسات العمومية التي تكون موازينها ملحقة ترتيبيا بالميزان العام للدولة.
- المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية وكذلك جميع الهيئات مهما كانت تسميتها والتي تساهم الدولة او الولايات او البلديات في راس مالها”.
وحسب الفصل الرابع من القانون المنظم للدائرة فإنه: ” تعتبر دائرة المحاسبات بالنسبة للدولة والجماعات العمومية المحلية والمؤسسات العمومية الإدارية الهيئة العليا لمراقبة ماليتها وتملك لهذا الغرض سلطة قضائية وسلطة مراقبة.
فهي: - تقضي ابتدائيا ونهائيا في حسابات المحتسبين العموميين وسيصدر امر في ضبط المحتسبين العموميين الذين تخضع حساباتهم وجوبا لقضائها.
بيد انه يمكن للسلطة الإدارية العليا ان تضبط حسابات الجماعات والمؤسسات العمومية مع إمكانية مراجعة ذلك بطلب من الأطراف المعنية او من تلقاء دائرة المحاسبات. - تقوم بمهمة مراقبة عامة على المتصرفين في الأموال العمومية”.
وحيث على دائرة المحاسبات حسب الفصل 7 من ذات القانون: “بالنسبة للهيئات الخاضعة لقضائها ومراقبتها أو تقديرها ان تكشف عن كل المخالفات وتأذن بالتصحيح اللازم وتقدر طرق التصرف وتعرض الإصلاحات التي ينبغي إدخالها”.
فالمشرع أعطى من خلال أحكام هذه الفصول دائرة المحاسبات دون غيرها سلطة مزدوجة للمراقبة والقضاء بالنسبة للهيئات التي تساهم الدولة في جزء من راس مالها. فهذه المؤسسة الهامة التي تعتبر احد جزئي مجلس الدولة هي الجهة الوحيدة المختصة بالنظر في حسابات وتصرف الهيئات سالفة الذكر اعلاه ورتب في الفصل السابع من القانون المنظم لتلك الدائرة الإجراءات التي يجب إتباعها للكشف عن المخالفات.
كما جاء بالفصل 12 (تنقيح 1990) ما يلي: “يباشر وظائف النيابة العمومية لدى دائرة المحاسبات مندوب الحكومة العام(حسب ما وقع تنقيحه بالقانون عدد75/2001 المؤرخ في 17/07/2001.) … والنيابة العمومية لدى دائرة المحاسبات مكلفة بتأمين العلاقات بين الدائرة من جهة والهيئات والمؤسسات الخاضعة لقضائها أو مراقبتها أو تقديرها من جهة أخرى. ويتعين على النيابة العمومية خاصة أن…. تحيط ممثلي النيابة العمومية لدى محاكم الحق العام علما بكل الأفعال التي تختص هذه المحاكم بزجرها…”. ويستنتج مما سبق أن دائرة المحاسبات هي التي لها وحدها حق تقييم أي إخلال يحدث في الهيئات التي تساهم الدولة في راس مالها وأن النيابة العامة لدى دائرة المحاسبات هي التي تحيل من ترى انه ارتكب جنحة أو جناية على النيابة العمومية المختصة لتتبعه من اجل ذلك. ويمكن القول إن هذه الإجراءات جعلت لتحقيق هدفين في ذات الوقت وهما: 1- حماية المال العام. و2- حماية المتصرفين في الهيئات التي تساهم الدولة في راس مالها وتوفير الضمانات لهم باعتبار أن تصرفهم سيقيم قبل أي تتبع من طرف الدائرة الوحيدة المختصة في هذا الميدان وهي دائرة المحاسبات. وقد سبق لمحكمة الاستئناف بتونس بدائرتها الثالثة عشر وأن تبنت الموقف القائل ببطلان إجراءات تتبع الموظف العمومي أو أعوان المؤسسات العمومية إذا لم يتم ذلك بقرار صادر عن دائرة المحاسبات وقد عللت الدائرة المذكورة قرار الإبطال بقرارها عدد 1376 الصادر بتاريخ 11/7/2002 (غير منشور) بكون دائرة المحاسبات لها حق الإثارة الخاصة في كل ما يتعلق بالمؤسسات الخاضعة لرقابتها. وحيث ان تعهد النيابة العمومية ليس مطلقا بل تقيده النصوص الخاصة والاستثنائية ذات الأولوية في التطبيق عملا بالمبدأ العام القائل بان النص الخاص يزيح النص العام. وبذلك فان التعهد مباشرة من قبل النيابة العمومية دون أن تتولى دائرة المحاسبات إبداء رأيها في التصرفات فيه مس بقاعدة إجرائية أساسية وهو ما يؤدي إلى بطلان إجراءات التتبع طبق ما اقتضى ذلك الفصل 199 من مجلة الإجراءات الجزائية والى بطلان الحكم الذي تأسس عليها.
وفي هذا الاتجاه جاء القــرار التعقيبي عــدد 25033 المـؤرخ في 17/10/1989[12]:”وحيث يتبين من الاطلاع على القرار المنتقد والأوراق التي أنبنى عليها ان إحالة الطاعن على محكمة البداية التي اقر حكمها القرار المطعون فيه لمقاضاته من اجل التداخل في المسالك العادية للتوزيع طبق القانون المؤرخ في 19/5/80 وقعت مباشرة من النيابة العمومية ودون سبق تعهد من هذه الأخيرة بتلك المخالفة بمقتضى إحالة من وزارة الاقتصاد الوطني. وحيث اقتضى الفصل 14 من القانون المذكور ان محاضر المخالفات لأحكام ذلك القانون يجب ان توجه لوزارة الاقتصاد الوطني وهي التي تتولى احالتها على المحاكم المختصة الا اذا قررت حفظها بدون تتبع او اجراء صلح فيها مع المخالف. وحيث يؤخذ من هذا النص القانوني ان حق اثارة الدعوى المتعلقة بتلك المخالفات وتتبعها من خصائص وزارة الاقتصاد الوطني وحدها، وتأسيسا على ذلك فليس للنيابة العمومية حينئذ حق اجراء التتبع فيها بانفرادها طالما لم يسبق تعهدها فيها بمقتضى احالة من الوزارة المذكورة . وحيث يترتب على ذلك ما دام لم تحترم في الاحالة الاجراءات التي فرضها النص القانوني المشار اليه حسبما ثبت بما سبق بيانه يكون تعهد محكمة الموضوع بالمخالفة غير سليم وبالتالي قرارها الصادر في موضوعها باطلا ومستوجبا للنقض لمنافاته لقواعد الإجراءات تطبيقا للفصل 199 م اج”.
فلئن كانت النيابة العامة تملك مبدأ ملائمة التتبع ولوكيل الجمهورية طبق الفصل 26 من م اج ان يتلقى ما يعلمه به الموظفون العموميين او افراد الناس من الجرائم وقبول شكايات المعتدى عليهم الا ان هذا ليس بصورة مطلقة، فإنه توجد في القانون عدة جرائم يتلقى فيها وكيل الجمهورية الاعلامات الا ان تتبعها يكون موقوفا على اجراءات اخرى اولية مثل حصول شكاية من الشاكي نفسه مثل جرائم الزنا والثلب والشتم في بعض الصور ومنها ايضا الشكايات المتعلقة بالمؤسسات التي تساهم الدولة في رأس مالها او في الكثير من الجرائم ذات الطابع الاقتصادي ففي هذه الحالة لابد من احالتها على الدائرة المختصة وهي التي تعهد له بالتتبع عند اكتشافها للجريمة. وان تجاوز تلك الاحكام الخاصة مخالف للمبادئ العامة للقانون التي تقضي بتقديم النص الخاص على العام والا لفقدت النصوص الخاصة قيمة وجودها واصبح قانون 8/3/1968 لا معنى له.
ب- ركن المنفعة:
المنفعة تقتضي تحديد مفهومها ، وكيفية اثباتها. - تحديد مفهوم المنفعة:
حيث بتصفح المجلة الجزائية يتبين ان المشرع ادرج الفصل 96 م ج بالقسم الثالث تحت عنوان “في الاختلاس من طرف الموظفين العموميين واشباههم”.
وحيث بقراءة الفصل 96 والفصل 98 القاضي بـ” على المحكمة في جميع الصور المنصوص عليها بالفصلين 96 و 97 أن تحكم فضلا عن العقوبات المبينة بهذين الفصلين برد ما وقع الاستيلاء عليه أو اختلاسه أو قيمة ما حصل عليه من منفعة أو ربح ولو انتقلت إلى أصول الفاعل أو فروعه أو إخوته أو زوجه أو أصهاره سواء بقيت تلك الأموال على حالها أو وقع تحويلها إلى مكاسب أخرى”. وحيث ان المنفعة المتحدث عنها بدلالة العبارات المستعملة بالفصل 98 لا تكون الا منفعة مادية بحتة وفي خلاف ذلك يستحيل الحكم بالخطية وخاصة رد ما وقع الاستيلاء عليه أو اختلاسه أو قيمة ما حصل عليه من منفعة أو ربح وزيادة عن ذلك فقد استعمل المشرع كلمات استيلاء، اختلاس، قيمة، منفعة، ربح، الأموال، مكاسب وهي تدل بأكملها على الجانب المادي دون المعنوي. ذلك ان الرد لا يكون الا عنصرا ماديا صرفا، وقد واصل الفصل المذكور الحديث في اتجاه ان المنفعة يجب ان تكون مادية بقوله: سواء بقيت تلك الاموال على حالها أو وقع تحويلها الى مكاسب اخرى اضافة الى ان الحكم بالخطية يستوجب قيمة مالية محددة.
فالتطبيق السليم لأحكام الفصل 96 يقتضي وجود مكاسب أي أموال مهما كان نوعها وضعت تحت يد موظف عمومي لادارتها، وحدد الفصل خمسة أفعال حصرية تتعلق بمكاسب يجب ان يتوفر واحد منها على الأقل وهي: عمليات بيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ. - اثبات وجود المنفعة:
ان الفصل 96 من نفس المجلة أوجب على المحكمة في صورة القضاء بالادانة في الصور المنصوص عليها بالفصلين 96 و98 م ج ان تحكم فضلا عن العقوبات برد ما وقع الاستيلاء عليه أو اختلاسه أو قيمة ما حصل عليه من منفعة أو ربح. وحيث أنه في صورة القبول جدلا بوجود المضرة المعنوية فإن أهل الخبرة يصبحون عاجزين على تقديرها وتحديد قيمتها ويجعل المحكمة غير قادرة على تسليط العقوبة المالية الواردة بالفصل 96 م ج برد ما وقع الاستيلاء عليهأو اختلاسه أو قيمة ما حصل عليه من منفعة أو ربح”.
ان القول الفصل في اثبات وجود ضرر وتحديد قيمته يرجع الى تقرير الاختبار، ويمكن القول ان فقه قضاء محكمة التعقيب استقر على أنه في مثل هذه الجرائم الاقتصادية والمالية لا يمكن التثبت من وجود جريمة الا بإجراء اختبار ثلاثي وبالتالي فلا مجال للإيقاف قبل ذلك.
و اقرت محكمة التعقيب في قرار حديث نفس الموقف، وأكدت أنه من المتوجب الاذن بإجراء الاختبارات الفنية والحسابية اللازمة قبل إصدار البطاقات القضائية وذلك لضمان حسن سير المرفق القضائي وضمان حرية الأفراد توصلا الى إقرار محاكمة عادلة وناجزة (قرار تعقيبي جزائي عدد 2354 مؤرخ في 23/5/2012 غير منشور). وأضافت محكمة التعقيب في ذات القرار أيضا أنه:” وحيث مما لا شك فيه أن دائرة القرار المنتقد وقبل البت في مطلب الافراج، وقبل البت في الأصل قررت ارجاع ملف القضية الى السيد المحقق لاتمام بعض الاعمال واهمها استنادا الى أحكام الفصلين 96 و97 م ج تقدير قيمة المنفعة الحاصلة للمتهمين والضرر اللاحق بالادارة، الحالة التي يتجه معها تكليف ثلاثة خبراء لتقدير قيمة المنفعة الحاصلة للمتهم والضرر اللاحق بالادارة. وحيث ورد بتعليل رفض مطلب الافراج ان الابحاث لم تكتمل بعد الأمر الذي يخشى منه في سراح المعقب، ويستروح من هذا التعليل أنه يتقاطع كليا مع القرار المتضمن وجوبية اجراء اختبار فني لبيان الضرر اللاحق بالادارة أو المنفعة التي حصل عليها المعقب… ذلك ان الاختبارات الفنية هي الفيصل في ارتكاب الجريمة من عدمه… وحيث مما لاشك فيه أن مثل هذه القضايا التي لها طابع اقتصادي ومالي لا يمكن الحسم في عناصرها دون اختبارات فنية وحسابية هي المحدد في اثبات ارتكاب الجرائم من عدمه”.
و من الضروري الاشارة الى أحكام الفصل 112 م م م ت الذي يعتبر ان رأي الخبير لا يقيد المحكمة، وبالتالي فللمحكمة دائما الحق في استبعاد رأي الخبير شرط حسن التعليل، وبناء عليه يمكن ان يرى الخبراء عدم وجود جريمة أو عدم وجود مضرة أو منفعة ومع ذلك تصدر المحكمة حكمها بالادانة. فالخبير هو شخص فني يعطي رأيه الاستشاري بصدد مسألة فنية تقتضيها قضيه مطروحة على المحكمة يصعب عليها الإلمام بها فنياً. لكن ” الاختبار ليس وسيلة إثبات وإنما طريقة فنيّة تلتجئ إليها المحكمة عندما تحتاج إلى بيان وضبط أمور فنيّة تساعدها على البتّ في الموضوع “. إذ نص الفصل الأول من القانون عدد 61 المؤرخ في 23 مارس 1993 أن مهمة الخبير العدلي “إبداء رأي فني أو إنجاز أعمال بتكليف من المحاكم”، ويستخلص مما سبق أن هدف الاختبار هو إنارة القاضي حول وقائع مادية تستوجب اختصاص فني وتكوين مهني لإجراء تحقيق معمّق له تأثير على حل المشكل الذي يطرحه النزاع. ويبقى” للمحكمة أن تأخذ بنتيجة أحد الاختبارات دون غيره لكن بشرط تبرير موقفها وبيان أسباب الترجيح”، وما عابته محكمة التعقيب على دائرة الاتهام ومن قبلها قاضي التحقيق في القرار محل التعليق هو عدم إجراء الاختبار أصلا وليس عدم الأخذ به، فالأول خلل يستوجب النقض، أما الثاني فهو حق يتطلب التعليل.
وفي الختام يمكن القول ان القرار محل التعليق هو من صنف القرارات المبدئية في تأويل احكام الفصل 96 م ج، لأن فيه تحديد دقيق لمجال التجريم وبيان للأوجه التي تقوم فيها الجريمة، خاصة عندما يتعلق الامر بخرق مبدأي المساواة وتكافؤ الفرص، اللذين طالما انتهكا في العهد البائد، ولازال حتى الآن عرضة لانتهاكات خطيرة لا تقل عما كان معمول به سابقا.
وتبرز أهمية هذا القرار التعقيبي من جهتين:
الأولى- أنه كشف عن وجود نقائص خطيرة في منظومة التوجيه الجامعي لا بد من اصلاحها.
والثانية- أنه أعلى حكم القانون وتمسك بالإباحة احتراما لمبدأ الشرعية رغم خطورة الافعال الصادرة عن المتهمين.
ويثيرتطبيق الفصل 96 م ج عدة إشكاليات:
أولاّ: يتعيّن اولا بيان علاقــة الفصل 42 من المجلة الجزائية بالفصل 96 من نفس المجلة اذ ينصّ الفصل 42 على أنّهُ “لا عقاب على من ارتكب فعلا بمقتضى نصّ قانوني أو إذن من الحكومة التي لها النظر”. إلاّ أنّ هذا الفصل كان ولازال محل نقاش أُثير بعـد انطلاق الأبحاث التحقيقية منذ جانفي 2011 التي شملت الرئيس السابق ومستشاريه وغيرهم الذين هم محل تتبع علـــــى معنى أحكام الفصل 96 على إثر تلقيهم تعليمات كتابية وشفاهية من رئيس الدولة.
السؤال المطروح هنا : ما مدى تحمّل الوزير أو المستشار أو الإطار الوظيفي مسؤولية تلقيه لتلك التعليمات المخالفة للتراتيب؟
لقد أجاب الفصل 41 بصفة واضحة على هذا السؤال، حيثُ نصّ على أن طاعة المجرم بسبب تعظيمه لمن يأمره بارتكاب جريمة لا تنجر منها صفة الجبر.
وهناك من ذهب إلى إعفاء الوزير أو الإطار الوظيفي من المسؤولية الجزائية مستندا في ذلك على أحكام الفصل 49 من الدستور التونسي المنحل “رئيس الجمهورية يوجه السياسة العامة للدولة ويضبط اختياراتها الأساسية”.
كما تجدر الإشارة أيضا انّ من واجبات الموظف العمومي احترام وطاعة رؤسائه المنصوص عليها بقانون الوظيفة العمومية بحيث يجب عليه الامتثال لأوامر السلطة العليا وهنا نشير أيضا إلى أن الأغلبية من وزراء النظام السابق والمستشارين تمسكوا خلال الابحاث التحقيقية بتلقيهم التعليمات لدحض المسؤولية الجزائية عنهم.
ثانيا: هناك إشكالية يطرحها شرط الصفة باعتباره شرطا أساسيا لقيام الركن المادي لجريمة الفصل 96 ولا بد في هذه الحالة أن يلتزم الموظف العمومي بواجب الامتثال لأوامر السلطة العليا لكن ماذا لو كانت تلك الأوامر مخالفة للتراتيب؟
في هذه الحالة يتمسك الموظف العمومي بعدم تنفيذ هذه الأوامر حتى لا توصف أعماله من قبيل المشاركة في الجريمة على معنى أحكام الفصل 32.
ولكي يعد المرؤوس مشاركا في الجريمة يشترط أن يكون الرئيس مختصا بإصدار الأوامر في نطاق ما عهد إليه من صلاحيات كما يجب أن يكون قد عهد إليه بهذه السلطة من الجهة المختصة على نحو سليم وفي حال يصدر رئيس الجمهورية تعليمات لوزير ما للقيام بأمر مخالف للتراتيب في هذه الحالة على الوزير أن يرفض الامتثال للأوامر باعتبارها صادرة عن غير ذي مختص.
ونفس الشيء على الموظف العمومي أن يمتنع عن الامتثال لأوامر صادرة خارج مرجع نظره الترابي لعدم احترامها قواعد الاختصاص الترابي.
ثالثا: هناك أيضا الإشكالية المطروحة على مستوى مفهوم “التراتيب” حيث وردت شاملة وغامضة وغير دقيقة وأحدثت لبسا في نظر شراح القانون وفقه القضاء التونسي.
وهنا نشير إلى أن كل التشريعات والأنظمة القانونية تعتبر أن تنفيذ الأوامر والتوجيهات الصادرة من الرؤساء الإداريين إلزاما وواجبا يقع على عاتق المرؤوسين وان أي إخلال أوتقصير في أدائه أو الامتناع عنه يعرضهم للعقوبات التأديبية.
رابعا: إلى جانب ذلك يطرحُ شرط المنفعة أو المضرة إشكالية تطبيقية أيضا، حيثُ أن المنفعة أو المضرة يجب ان تكون مادية ومحددة وقابلة للتثمين كان تكون المنفعة التي استخلصها الموظف العمومي لنفسه أو لغيره قد وقع تقدير قيمتها بألف دينار وفي هذه الحالة لا تجد المحكمة حرجا في تطبيق أحكام الفصل 98 من المجلة الجزائية برد المبلغ المستولى عليه والسؤال المطروح هنا ما مدى تحمل المتهم للمسؤولية الجزائية في صورة عدم التوصل إلى تحديد قيمة المنفعة أو المضرة؟ وو ماذا لو كانت المنفعة معنوية؟ .
الفقرة الثانية: العقوبة
تتمثل عقوبة استغلال موظف عمومي لصفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها في عقوبات اصلية )أ( و اخري تكميلية )ب(
أ- عقوبات أصلية:
ينص الفصل 96 م ج على انه يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي قيمة المنفعة المتحصل عليها أو المضرة الحاصلة للإدارة الموظف العمومي أو شبهه وكل مدير أو عضو أو مستخدم بإحدى الجماعات العمومية المحلية أو الجمعيات ذات المصلحة القومية أو بإحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية أو الشركات التي تساهم الدولة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنصيب ما أو الشركات التابعة إلى الجماعات
العمومية المحلية مكّلف بمقتضى وظيفه ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ أي مكاسب استغلّ صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيب المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة أو إلحاق الضرر المشار إليهما.
وعلى المحكمة أن تحكم فضلا عن العقوبات السجنية بردّ ما وقع الاستيلاء عليه أو اختلاسه أو قيمة ما حصل عليه من منفعة أو ربح ولو انتقلت إلى أصول الفاعل أو فروعه أو إخوته أو زوجه أو أصهاره وسواء بقيت تلك الأموال على حالها أو وقع تحويلها إلى مكاسب أخرى.
ولا يتحرر هؤلاء من هذا الحكم إلا إذا أثبتوا أن مأتى هذه الأموال أو المكاسب لم يكن من متحصل الجريمة.
ب- العقوبات التكميلية:
ينص الفصل 98 ” …… وللمحكمة في جميع الصور الواردة بالفصلين المذكورين أن تسلط كل أو بعض العقوبات المقرّرة بالفصل الخامس على أولئك المجرمين”.
فللمحكمة ان تحكم بالعقوبات التكميلية التالية: - منع الإقامة،
– المراقبة الإدارية،
– مصادرة المكاسب في الصور التي نص عليها القانون،
– الحجز الخاص،
– الإقصاء في الصور التي نصّ عليها القانون،
– الحرمان من مباشرة الحقوق والامتيازات الآتية :
أ) الوظائف العمومية أو بعض المهن مثل محام أو مأمور عمومي أو طبيب أو بيطري أو قابلة أومدير مؤسسة تربوية أو مستخدم بها بأي عنوان كان أو عدل أو مقدم أو خبير أو شاهد لدى المحاكم عدا الإدلاء بتصريحات على سبيل الاسترشاد،
ب) حمل السلاح وكل الأوسمة الشرفية الرسمية،
ت) حق الاقتراع.
– نشر مضامين بعض الأحكام.