الأخبار

احتواء الأزمة في حرب غزة… الدبلوماسية المصرية في مواجهة الإبادة وصمت العالم

بقلم الدكتور أحمد غازي
مساعد الأمين العام للمركز العربي الأوروبي لحقوق الانسان والقانون الدولي
تعيش المنطقة اليوم واحدة من أكثر المآسي الإنسانية والسياسية قسوة منذ عقود، مع استمرار الحرب على غزة التي تجاوزت كل حدود المنطق والإنسانية. فالمجازر اليومية، واستهداف المدنيين، وتدمير المستشفيات والمدارس، لم تعد مجرد مشاهد حرب تقليدية، بل فصولًا من إبادة جماعية موثقة تهز الضمير العالمي وتعيد طرح السؤال المؤلم: أين يقف العالم من كل هذا؟
في ظل هذا المشهد الدموي الذي اتسم بعجز دولي وصمت أخلاقي، برزت مصر وقطر كقوتين إقليميتين تقودان الجهود لاحتواء الأزمة ومنع انزلاقها نحو فوضى إقليمية أوسع. غير أن الدور المصري تحديدًا استحوذ على ثقلٍ خاص، بحكم الجغرافيا والتاريخ والسياسة، وبحكم ما تمتلكه القاهرة من رصيد خبرة دبلوماسية وأمنية يؤهلها لأن تكون حجر الزاوية في أي مسار للتهدئة أو السلام.
منذ اندلاع الحرب، تعاملت القاهرة مع الأزمة بمنهج الدولة المسؤولة لا المتفرجة، فعملت على فتح قنوات اتصال متوازية مع جميع الأطراف، واستثمرت علاقاتها الدولية والإقليمية لتكريس منطق الحوار بدلًا من الانفجار. قادت مصر وساطة صعبة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، وسعت إلى تحقيق وقف فوري لإطلاق النار وفتح معبر رفح أمام المساعدات الإنسانية، رغم ما واجهته من ضغوط سياسية وأمنية بالغة. كان موقفها في رفض التهجير القسري للفلسطينيين من غزة إلى سيناء موقفًا حاسمًا أكسبها احترامًا دوليًا، وأكد أن أمن مصر القومي لا ينفصل عن استقرار فلسطين وعدالة قضيتها.
وفي المقابل، لعبت قطر دورًا مكملًا، من خلال جهود الوساطة السياسية والمساعدات الإنسانية التي أسهمت في تخفيف بعض ملامح الكارثة. تحركت الدوحة بخطاب هادئ قائم على الدبلوماسية الإنسانية، وسعت إلى بناء توافقات مع واشنطن وتل أبيب من جهة، ومع حماس والسلطة الفلسطينية من جهة أخرى، مما جعلها حلقة اتصال حيوية في وقت تتعطل فيه القنوات الرسمية الأخرى.
تكاملت المبادرتان المصرية والقطرية في هدف واحد: إنقاذ الأرواح وتهيئة المناخ لسلام شامل ودائم، إلا أن هذه الجهود اصطدمت بجدار المواقف الدولية المتناقضة. فبينما أبدت بعض الدول — مثل النرويج، وإسبانيا، وإيرلندا، وجنوب إفريقيا، وبلجيكا، والبرازيل — مواقف إنسانية واضحة في إدانة العدوان الإسرائيلي، والمطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، اختارت قوى كبرى أخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، الاصطفاف العلني أو الضمني إلى جانب إسرائيل، متذرعة بـ “حق الدفاع عن النفس” ومُغفِلة حق الفلسطينيين في الحياة والكرامة.
لقد كشف هذا التناقض في المواقف الدولية عن أزمة عميقة في الضمير العالمي، وأكد أن النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية على مبادئ حقوق الإنسان والسلام لم يعد قادرًا على تطبيقها حين يكون الجاني حليفًا استراتيجيًا. فبينما تُعاقَب دول وشعوب على تجاوزات محدودة، تُمنح إسرائيل حصانة سياسية تتيح لها قتل الأطفال والنساء بلا مساءلة، وسط تبريرات واهية تتجاهل أبسط قواعد القانون الدولي الإنساني.
ومع هذا الواقع القاتم، تبقى الدبلوماسية المصرية هي الركيزة الأبرز القادرة على تحريك المياه الراكدة. فالمبادرة الأخيرة التي أطلقتها القاهرة لوقف الحرب والوصول إلى اتفاق شامل للسلام تمثل نافذة أمل نادرة في ظل الانقسام الدولي. المبادرة المصرية لا تقتصر على وقف النار فحسب، بل تسعى إلى صياغة رؤية شاملة لمعالجة جذور الصراع، عبر استئناف عملية السلام على أساس حل الدولتين، وضمان حماية المدنيين، وإطلاق عملية إعادة الإعمار بإشراف دولي.
إن الدور المصري في هذا الإطار يتجاوز حدود الوساطة إلى ممارسة دبلوماسية استباقية تسعى لحماية الأمن الإقليمي ومنع انهيار النظام العربي. فمصر تدرك أن استمرار الحرب يعني تفجير المنطقة بأكملها، وأن غياب العدالة في فلسطين سيبقي الشرق الأوسط ساحة دائمة للاحتقان والعنف.
ولا يمكن الحديث عن احتواء الأزمة دون التطرق إلى البعد الإنساني الكارثي الذي تعيشه غزة. فالمشاهد اليومية للدمار والجوع والنزوح ليست مجرد أرقام في تقارير الأمم المتحدة، بل جرح مفتوح في جسد الإنسانية. إن وقف الحرب لم يعد مطلبًا سياسيًا، بل واجبًا أخلاقيًا، وعلى المجتمع الدولي أن يختار بين التواطؤ والصمت، أو الوقوف إلى جانب القيم التي يزعم الدفاع عنها.
لقد أثبتت الأحداث أن السلام لا يُمنح بالقوة، ولا يُفرض بالحصار، بل يُبنى بالإرادة والشجاعة السياسية. ومصر اليوم، برؤيتها المتوازنة ومسؤوليتها التاريخية، تقف في مقدمة الدول التي تؤمن أن السلام لا يمكن أن يتحقق دون عدالة، وأن العدالة لا يمكن أن تُصان ما دام العالم يكيل بمكيالين.
إن احتواء الأزمة في غزة يتطلب شجاعة في الموقف لا تقل عن شجاعة من يقف في الميدان. ومهما طال أمد الحرب، فإن التاريخ سيسجل أن مصر وقفت إلى جانب الحق والإنسانية حين اختار الآخرون الصمت، وأن صوتها ظلّ ينادي بالسلام في زمنٍ لم يسمع فيه أحد سوى ضجيج السلاح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى