وسائل التواصل الاجتماعي بين حرية التعبير وفوضى التأثير في العالم العربي
✍️ قراءة تحليلية في التحولات الرقمية وتداعياتها المجتمعية

تشهد المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة تحوّلات عميقة ومتسارعة على المستويين السياسي والاجتماعي، ترافقت مع اضطرابات داخلية في بعض الدول، وتوترات في العلاقات بين دول شقيقة، إلى جانب أزمات اقتصادية وأمنية متداخلة. وقد تزامن ذلك مع تصاعد غير مسبوق في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحوّلت من فضاءات للتعبير الحر والتواصل الاجتماعي إلى أدوات تأثير مباشر في الرأي العام، بل وأحيانًا إلى منصات للتحريض والتشويه وبث الفوضى المعنوية.
وسائل التواصل: من أدوات تواصل إلى أدوات صراع
لم تعد المنصات الرقمية مجرد وسائل لتبادل الآراء والمعلومات، بل أضحت فاعلًا مؤثرًا في المشهد السياسي والمجتمعي. فقد برزت أنماط خطيرة من الاستخدام، من بينها:
-
نشر الأخبار المضللة والمعلومات غير الموثوقة،
-
تأليب الرأي العام وتوجيهه خارج سياقه الواقعي،
-
حملات التسقيط والتشويه الممنهجة،
-
إذكاء الخلافات القومية والطائفية والجهوية.
وتكمن الخطورة الحقيقية في أن هذا المحتوى، حين يُستهلك دون وعي أو تمحيص، يساهم في تشكيل وعي زائف، ويغذّي خطابات كراهية قد تنتقل من الفضاء الافتراضي إلى الواقع الميداني، مهددة السلم الاجتماعي والاستقرار الوطني.
غياب الرقابة المنظمة والحوكمة الرقمية
تعاني أغلب الدول العربية من قصور تشريعي واضح في التعامل مع المحتوى الرقمي، إذ لم تُطوَّر بعد أطر قانونية حديثة توازن بين حرية التعبير والمسؤولية المجتمعية. وفي ظل غياب مواثيق أخلاقية رقمية مشتركة، تظل وسائل التواصل فضاءات مفتوحة بلا ضوابط واضحة، ما يترك المجال واسعًا للاستغلال السياسي أو الأيديولوجي أو حتى التجاري غير الأخلاقي.
مسؤولية المستخدم والنخب المجتمعية
لا يمكن إلقاء المسؤولية كاملة على المنصات أو الحكومات فقط. فالمستخدم العربي، في كثير من الأحيان، ينخرط في إعادة نشر محتوى يفتقد للمصداقية أو القيمة، مدفوعًا بالعاطفة أو الانفعال أو البحث عن التفاعل السريع. كما أن النخب المثقفة والإعلامية والصحفية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بلعب دور ريادي في:
-
ترشيد النقاشات الرقمية،
-
التصدي لخطاب الكراهية والتضليل،
-
إنتاج محتوى مسؤول يُعلي من قيمة الحقيقة والمعرفة.
توصيات واستنتاجات
أمام هذا الواقع، تبرز جملة من التوصيات الملحّة:
-
إطلاق ميثاق عربي مشترك لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، يراعي الخصوصيات الثقافية والسياسية لكل دولة، ويضع حدودًا واضحة تمنع استغلال المنصات في إثارة الفتن وزعزعة الاستقرار.
-
تعزيز التربية الرقمية لدى الأجيال الجديدة، من خلال إدماج مفاهيم الوعي الرقمي وأخلاقيات النشر في المناهج التعليمية.
-
دعوة الحكومات والمؤسسات الإعلامية والمجتمع المدني إلى تنظيم حملات وورش توعوية حول المسؤولية الرقمية وأثر الكلمة في الفضاء العام.
ما تشهده المنطقة العربية اليوم ليس مجرد “فوضى رقمية” عابرة، بل هو تحوّل اجتماعي وثقافي عميق يحمل في طياته مخاطر حقيقية على استقرار الدول وتماسك المجتمعات، إذا لم يُعالج ضمن رؤية شاملة تجمع بين القانون، والإعلام، والتربية، والمسؤولية الفردية والجماعية.









