كثيرون اليوم الذين يسعون إلى اختزال تاريخ تونس المعاصر في شخص بورقيبة مع البخس المتعمد لحقوق كل بقية الوطنيين الذين شاركوه النضال وبناء الدولة.. لا اعتقد أن أحدا من المنصفين لا يشهد لبورقيبة بنضاله وحبه لتونس وزعامته ونظافة يده… (نظافة اليد في المال العام.. حيث لم يثبت عن بورقيبة أن استغل الحكم كي يتحول الى سمسار لشراء العقارات أو يبني المنازل الفخمة باسمه أو هرّب أموالا وكنزها في الخارج على غرار ما فعله ويفعله الآخرون .. الثابت أن بورقيبة غادر الحياة ولم يترك تركة مادية للورثة بعد 31 سنة من الحكم ..وهذا شيء يحسب له)
لكن سر نجاح بورقيبة في بناء الدولة الوطنية خلال العشرين سنة الأولى من الاستقلال، كان يكمن في ذاك الفريق الوطني من المناضلين من جيل الحركة الوطنية الذين بدؤوا معه المشوار منذ معركة التحرير إلى بناء الدولة..فبورقيبة كان رجل دولة يتميز بالجرأة والبراغماتية الفائقة في تنفيذ مطالب النخب الوطنية التي كانت تحيط به بعقلية قول الشاعر:”
إن صَحّ قولُكما، فلستُ بخاسر**** أو صَحّ قولي، فالخَسارُ عليكما
فمشروع مجلة الأحوال الشخصية مثلا كان جاهزا منذ بداية الخمسينات لكنه ظل مجمدا ينتظر من يضعه على السكة.. تعميم التعليم أيضا ومجانيته والإحاطة الاجتماعية المتمثلة في مجانية الخدمات الصحية والتضامن الاجتماعي، كانت كلها مطالب النخبة من خلال الاتحاد العام التونسي للشغل.. هذه المطالب مدونة في لوائح مؤتمره السادس سنة 1956 وبرنامجه الاقتصادي والاجتماعي الذي تبناه الحزب الدستوري خلال مؤتمره بصفاقس سنة 1955 (أي قبل ما يتقلد بورقيبة المسؤولية العليا بالبلاد).. وهذا لا يعني أن بورقيبة لم يكن همه هذه المطالب الحضارية وزيادة، كتوحيد القضاء وتأميم الثروات، وحرصه البالغ على تغيير الأوضاع التونسيين البائسة بعد الاستقلال بكل السبل، لكن أؤكد مرة أخرى على انه لو لم تكن هناك نخبة وطنية واعية تشاطره تلك الطموحات ما قبل وبعد الاستقلال لما استطاع بورقيبة تسجيل اسمه في تاريخ تونس المعاصر.
لكن هذا التسجيل بقي منقوصا وعقبة كؤودا على المستوى القطري حين تشبث بالبقاء في الحكم الى أن بلغ أرذل العمر حتى خارت قواه وخارت معه مؤسسات الدولة وأضحت مرتعا لطابور الوصوليين والمغامرين وحياضا للانتهازيين..فالرجل قد أفضى الى ربه وقد خلط رحمه الله، عملا صالحا وآخر سيئا في السياسة وممارسته للحكم على مدى ثلاثة عقود من الزمن. لقد تغلّب عليه الدهاء أكثر من الحكمة حين لم يستثمر بالتوازي في ارساء الحريات وبناء الدولة المدنية الحقيقيٌة ذات المؤسسات الديمقراطية، ولم يستشرف بحنكة لمستقبل تونس في ظل العالم المتطور. فبورقيبة رجل دولة لا شك في ذلك، رجل له بعد نظر وموضوعية في تحليل الواقع خاصة على مستوى السياسة الخارجية، لا شك في ذلك أيضا، بل التاريخ قد أنصفه في كثير من المحطات… لكنّه للأسف رغم ذلك لم يكن موضوعيا في استشراف نهايته في الحكم..بل إن الغرور وتوهمه بان تونس لا يمكن أن تتقدم بدونه، كانا سببا في خروجه من الباب الخلفي للسياسة والحكم بدل الباب الرئيسي ..فبورقيبة رغم أن ثقافته كانت غربيّة لكن سلوكه في الحكم بقي شرقيا لا يختلف عن بقية الحكام العرب.. فترك بموجب هذه الممارسة المتحجرة تركة لا يزال جزء من التونسيين يُعاني من مخلفاتها البائسة.. ولا أدل على ذلك ما تعيشه تونس منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، إلا نتيجة لعدم إدراكه لتخلفه عن الزمن ومتطلبات المستقبل للأجيال التي لم تعرف الاستعمار وتبعاته السيئة الذكر..ولكنها بالمقابل تنظر بطموح بالغ إلى ما يدور حولها في العالم المتطور.. فهناك فرق شاسع بين الجيل أو الأجيال التي عاشت مع بورقيبة بؤس المستعمر، والذين كانوا يرون أن كل ما جاءت به دولة الاستقلال هو كثير في نظرهم ومقنع مقارنة بما كانوا يعيشونه أيام الاستعمار.. وبين أجيال لم تعش هذا الماضي البائس.. وبالتالي المقارنة تكون عندهم بين ما هو موجود وفرته الدولة الوطنية، وما هو منشود وموجود لدى الشعوب الأخرى في بلدان العالم المتقدم، حياة كريمة تستند إلى إرساء الحريات والمؤسسات الديمقراطية.. تمشّيا مع طموحاتهم في نمط العيش، وتناسقا مع مقاربات قد تختلف تماما عن مقاربات إسلافهم في التسيير والتدبير والتفكير.. وهي سنة الله في خلقه.
محمد العماري..