مقالات
محمد بن سلمان ورؤية النهضة: استعادة مجد العلم والحضارة

بقلم: ناصر السلاموني
منذ أن نزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأول كلمة من القرآن الكريم: “اقرأ”، ارتبطت رسالة الإسلام بالعلم، فكانت القراءة أول دعوة إلهية لتأسيس حضارة قائمة على المعرفة والتفكر. وجاءت توجيهات النبي الكريم لتؤكد هذا النهج، فحث على التعلم وتوسيع المدارك، حتى جعل فداء بعض أسرى بدر أن يعلّم كل واحد منهم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة. كانت تلك البذرة الأولى التي غرست في الأمة إدراكاً عميقاً لقيمة العلم، وأطلقت مسيرة فكرية ومعرفية غيرت مجرى التاريخ.
ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وتنوع شعوبها وثقافاتها، برزت الحاجة إلى نقل علوم الأمم السابقة، فشهد العصر العباسي نهضة علمية كبرى، تجلت في حركة الترجمة إلى اللغة العربية، وازدهرت في عهد الخليفة هارون الرشيد وابنه المأمون. وكان بيت الحكمة في بغداد نموذجاً مشرقاً لمكتبة عالمية ومركزاً بحثياً متقدماً، ضم آلاف الكتب من مختلف الحضارات، وأصبح ملتقى العلماء والمفكرين من شتى الأقطار. ومن هناك انطلقت شرارة الإبداع التي وضعت المسلمين في صدارة الأمم علماً وحضارة.
لم يقتصر عطـاء المسلمين على العلوم الدينية من فقه وحديث وتفسير، بل امتد إلى شتى ميادين المعرفة الإنسانية. ففي الطب والفلسفة نبغ ابن سينا، وفي الرياضيات والجبر برز الخوارزمي، وفي الجراحة تألق الزهراوي، وفي البصريات أبدع ابن الهيثم، بينما ترك الرازي بصماته في الطب والكيمياء. هذه الأسماء اللامعة، وغيرها كثير، لم تؤسس لنهضة إسلامية فحسب، بل مهدت لنهضة أوروبا نفسها، إذ اعتمد الغرب على تراثهم العلمي في جامعاته الأولى، فكانت علوم المسلمين الأساس الذي قامت عليه حضارة العصر الحديث.
وفي موازاة ذلك، برزت الجامعات الإسلامية كمنارات للعلم، بدءاً من جامع الزيتونة في تونس والجامع الأزهر في القاهرة، وصولاً إلى جامعات الأندلس التي بلغت ذروة مجدها في قرطبة وغرناطة. وقد بلغت الحضارة الإسلامية في الأندلس حداً جعل أبناء ملوك أوروبا يرسلون أولادهم إلى بلاد المسلمين لتلقي العلوم والمعارف، وليتعلموا اللغة العربية التي غدت لغة العلم والفكر الأولى في العالم آنذاك.
غير أن هذه النهضة لم تدم طويلاً، فقد تآمر الغرب مدعوماً باليهود على إسقاط الخلافة الإسلامية، واحتلال البلاد العربية، ونهب ثرواتها، وتدمير مكتباتها ومراكزها العلمية. ومع سقوط بغداد وضياع الأندلس ثم تفكيك الخلافة العثمانية، فقدت الأمة ريادتها الحضارية، بينما استثمر الغرب علوم المسلمين، فأخذ بها وتقدم، حتى أصبحنا في زمن لاحق ندور في فلكه، نستورد منه التقنية والدواء، بعد أن كنا مصدرهما للعالم.
واليوم، ومع بزوغ رؤية المملكة العربية السعودية 2030، تعود الطموحات لتنهض الأمة من جديد. فقد وضعت الرؤية التعليم والبحث العلمي والقطاع الصحي في صميم أهدافها، باعتبارها الركائز الأساسية لأي نهضة حقيقية. فهي تسعى إلى تطوير الجامعات السعودية لتكون ضمن الأفضل عالمياً، وإنشاء معاهد بحثية متقدمة، وجذب الطلاب الدوليين والكفاءات العلمية من مختلف الدول. كما تهدف إلى رفع الإنفاق على البحث العلمي وربطه باحتياجات التنمية الوطنية، وإنشاء مراكز ابتكار في الطاقة المتجددة والتقنيات المستقبلية والفضاء. وفي المجال الطبي، تسعى المملكة إلى بناء مراكز طبية عالمية، وتطوير الرعاية الصحية الشاملة، والاستثمار في أحدث التقنيات الطبية، بما يجعلها وجهة رائدة في السياحة العلاجية.
وقد كان لولي العهد الأمير محمد بن سلمان دور جوهري في دفع هذه الأهداف إلى حيز التنفيذ. فقد أطلق برنامج تنمية القدرات البشرية لتأهيل أبناء المملكة لمواكبة تحديات المستقبل، ومنح الجامعات استقلالية أكاديمية وإدارية لتعزيز مرونتها وتنافسيتها. كما أسس مشروعات كبرى مثل نيوم لتكون مختبراً للتقنيات المستقبلية، وأطلق مبادرات طبية ضخمة مثل مدينة الملك سلمان الطبية في الرياض، إضافة إلى دعمه للشراكات الدولية مع كبرى الجامعات والمراكز البحثية. ولم يغفل ولي العهد أهمية التقنيات الحديثة، فكان من أبرز الداعمين لتطوير الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة عبر مبادرات وطنية متقدمة مثل “سدايا”.
إن ما شهدته الأمة من نهضة علمية في الماضي هو الدليل الأكبر على قدرتها على استعادة مجدها. واليوم، تمثل رؤية المملكة بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان فرصة تاريخية لإعادة بناء مركز حضاري عالمي، يجعل المملكة العربية السعودية منارة علمية وطبية واقتصادية، ويعيد للأمة العربية والإسلامية ريادتها ومكانتها بين الأمم، لتصبح مجدداً مصدر إشعاع فكري وحضاري للعالم بأسره.