فن و ثقافة

سيرة كتاب

STP LA TUNISIENNE DE PUBLICITÉ

عندما هدأت المطبعة بعد ليلة كاملة من العمل المتواصل , وجدت نفسي مطروحا على طاولة واسعة ، وعلى صدري شمس كبيرة وجبال بعيدة ونهر رقراق وفي الفضاء الفسيح نوارس تحلق على ارتفاع منخفض وتحت الشمس مباشرة كتب اسم المؤلف .. ياترى كم سيفرح عندما يراني بهذا الالق ؟
اضم بين دفتي روايته الجديدة بأحداثها العجيبة وتفاصيلها المشوقة .
حتما سيتلقفني القراء بلهفة وسيستلقون على أرائكهم مستمتعين بقراءتي وقد يضمني بعضهم الى صدره عندما يندمج مع الحدث ويلبث قليلاً بانتظار المفاجأة القادمة ثم يشرع بالقراءة ..
في الصباح حملني بيده عامل نظيف ووضعني مع اخوتي الذين يشبهونني في علبة كبيرة ثم رفعنا جميعاً الى سيارة حمل صغيرة ، اندفعتْ السيارة وكنت أرى من خلال فتحة صغيرة عشرات البنايات والأشجار وأعمدة الهاتف والكهرباء .. لم أكن اعرف بالضبط الى أين كانت تأخذنا الشاحنة !،
انعطفت اخيراً وتوقفت أمام محل كبير ، صرخ صاحب المحل على مايبدو على أحدهم وأسرع الى تفريغ الحمولة بعد لحظات وجدته يحملني بعناية ويرصفني مع البقية على رف نظيف ثم حمل بعضا منا ووضعنا على طاولة أمام المحل متباهيا بنا وبألواننا الزاهية وحلم بما سيربحه من بيعنا وخيل له اننا سننفذ على جناح السرعة وبالفعل لم تمض ساعات قليلة وإذا بي أخر كتاب ملقى على الطاولة وكان البائع يروج لنا صائحاً :
-وصلتنا آخر رواية للكاتب المشهور أسرعوا الى اقتنائها ..
بعد قليل وقف رجل اربعيني قربي ، امتدت يده النحيفة اليّ , رفعني عالياً ونظر الى وجهي ، قلب اوراقي وضحك قال ساخراً : سنرى ماذا ستقول هذه المرة .. هل تسخر منا من جديد ؟!
نقد البائع بضعة دنانير ثم انصرف يذرع الشوارع وهو يمسكني بقوة حتى انني ضقت ذرعاً برائحته الكريهة ولكنني صبرت ريثما يصل الى البيت وحينها قد يقذف بي الى أقرب طاولة ، بعد فترة دفع باب بيت قديم ومتهالك ثم القى بجسده على سرير عفن وغرفة خانقة تمتلئ بالرطوبة .
وقبل ذلك رماني بشيء من الاستهزاء على اريكة قديمة ، هيمن الصمت على البيت عدا انفاسه المتسارعة التي بدأت تهدأ رويداً رويداً ، كان البيت عبارة عن فوضى كبيرة وعلى مبعدة امتار رأيت عشرات الكتب المبعثرة تغفو على طاولة كبيرة اتسعت للكثير من اقراني .. في صباح اليوم الثاني نهض الرجل متثاقلا ، غسل وجهه وأعد شايا ثم استلقي وسحبني من رقبتي ، طوى الغلاف برعونة وبدأ ، لم أكن أتحمل رائحة انفاسه البشعة وكنت أحاول الابتعاد عنه قدر الامكان إلا انه كان يقربني اليه أكثر .. ضحك ساخراً وهو يتناول كوباً من الشاي ، قذفني على الاريكة مرة اخرى وقال : أي أفاق أنت .؟ عن أية خرافة تتحدث أيها البرجوازي التافه .؟
طرق باب البيت فنهض من مكانه واتجه بخطى متثاقلة نحو الباب . حين عاد كان يتبعه رجل مكفهر الملامح ، يترنح في مشيته ، جلسا متقابلين ، وقال لصاحبه :
-هل رأيت روايته الجديدة ؟.. انه ما يزال يتحدث بنفس الطريقة المتعجرفة .. لن يستطيع ان يصور معاناتنا في هذا المستنقع ..
ابتسم الرجل وقال :
-لن تخسر شيئاً لو أعطيتني الكتاب لأقرأه الليلة
فرد عليه صاحبي :
-هنيئاً لك خذه فانا ما عدت اقرأ لأمثاله ..
بعد ساعة غادر الرجل بخطاه المترنحة وهو يتأبطني كان العرق المتفصد يجتاحني بنتانته وشعرت بأنني بت اخسر احترامي لنفسي وأنا أتلقى كل هذه المهانة والإذلال .. لماذا لم تقتنيني امرأة جميلة كانت ستضمني ألان الى صدرها المعطر لان صاحبي يتحدث عن تجربة حب جميلة تحيل حياة ابطالها الى عالم شاسع من الامل والحرية والحب ؟!..
كان الشارع المفضي الى بيت صاحب الابط النتن مليء بالحفر .. ولأن صاحبي كان يترنح فكنت اخشى ان نقع سوية في المياه الآسنة .. وصلنا اخيراً الى بيت لا يختلف كثيراً عن البيت الاول .. استقبلتنا صرخات امرأة متذمرة كانت تلاحق اطفالها بهستيرية وما ان شاهدت صاحب الابط النتن حتى انفجرت في وجهه صارخة :
-أين الطعام يا رجل .. جلبت لنا كتباً وهل تؤكل الكتب ؟
فرد الرجل متوسلاً :

لم أشترِ الكتاب لأنني لا أملك ثمنه أعطاني اياه مروان ..
اقتربت منه زوجته وأمسكت بغلافي بقوة بينما تمسك بي الزوج وهو يشتمها .. صار غلافي الممزق بين يديها وجسدي الهزيل بين يديه ، صرخا وتشاجرا ثم اجتمع اطفال الزقاق فوجدت نفسي تحت الاقدام وهي تسحق اشلائي المتناثرة على البلاط .. صرخت ولم يكن أحد ليسمع صراخي ، ولكنني رأيت طفلاً صغيراً يجمع اوراقي ويحاول تخليصي من تحت الأقدام المجنونة .

الأديبة والإعلامية العراقية شهد الرفاعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى