ذهب الكرملين…وظلال الشرق

كتب رياض الفرطوسي
لم يكن صعود أحمد الشرع درجات الكرملين الطويلة مجرد حركة بروتوكولية في زيارة رسمية، بل كان أشبه بصعودٍ رمزيٍّ إلى قمة مرحلة جديدة في تاريخ الشرق نفسه. السلالم التي أنهكت أنفاسه قليلاً، كما مازح بوتين، كانت امتداداً لرحلة أطول بكثير: رحلة الانتقال من رماد حربٍ أنهكت البلاد إلى مشهدٍ يحاول أن يعيد لها ملامحها وسط عالَمٍ لا يعرف الثبات.
في القاعة الخضراء التي تلتمع جدرانها كذاكرةٍ مثقلة بالذهب والقصص، وقف الرئيس السوري الجديد أمام نظيره الروسي؛ لقاءٌ بدا فيه الماضي متوارياً خلف المرايا، بينما الحاضر يكتب نفسه بحذرٍ على صفحاتٍ باردة من الرخام والسياسة. بوتين الذي اعتاد استقبال الأسدين في قاعات جانبية، فتح هذه المرة أبواب القصر الكبير، كأنه يعلن اعترافاً مبطّناً بأنّ الشرق تغيّر، وأن موسكو تتقن لغة التحوّل كما تتقن لعبة القوة.
كان المشهد أكثر من لقاء بين دولتين. كان لحظة مواجهة بين زمنين: زمنٍ انهار تحت ثقل الشعارات، وزمنٍ يولد على مهل من رماد الخسارات. الشرع الذي جاء من بلدٍ جُرّبت فيه كل أنواع النار، كان يعرف أن طريق الإعمار لا يمرّ عبر الشعارات الثورية، بل عبر التوازنات الهادئة. وبوتين، بخبرته في قراءة الضعف والقوة، يدرك أن النفوذ في الشرق لم يعد يُصان بالصواريخ فقط، بل بالثقة والمرونة وذكاء التوقيت.
خلف الصور الرسمية، كان الحوار الحقيقي يجري في الصمت. فروسيا، التي فقدت بعضاً من وزنها في ميادين أخرى، تعرف أن سوريا هي مرساتها الأخيرة في المتوسط، وأن تبدّل الوجوه في دمشق لا يعني تبدّل المواقع. أما الشرع، الخارج من حربٍ أكلت الأخضر واليابس، فيدرك أن أي مستقبل لا يمكن أن يُبنى دون تفاهمٍ مع من يملك مفاتيح الجغرافيا والسياسة معاً.
لكن الأهم من كل ذلك، أن اللقاء كشف عن مبدأٍ جديد في العلاقات الدولية: لا شيء ثابت سوى التغيّر. فالمصالح لم تعد تُدار بمنطق الولاء، ولا التحالفات تُبنى على الذاكرة وحدها. لقد ولّى زمن الشعارات، وبدأ زمن الحِسابات الدقيقة، حيث تُقاس الصداقات بمدى قدرتها على إنتاج التوازن، لا العواطف.
في نهاية الزيارة، لم يكن البيان الختامي هو الخبر، بل الصمت الذي تبعها. صمتٌ كثيف كالثلج الروسي، يعرف الجميع معناه: أن دمشق لن تعود إلى ما كانت عليه، وأن موسكو لم تعد كما كانت، وأن الشرق يعيد كتابة نفسه بخطوطٍ جديدة، لا ترسمها البنادق وحدها، بل الأقلام التي تعي دروس السقوط والنهوض.
هكذا بدا المشهد في الكرملين: رئيسٌ يصعد سلّماً طويلًا نحو واقعيةٍ سياسية جديدة، وآخر يهبط قليلاً عن عرش اليقين نحو براغماتيةٍ أكثر حكمة. بينهما شرقٌ يبدّل جلده ببطء، يحاول أن يتعلّم فنّ البقاء بعد أن أنهكته لعبة الغلبة.
إنها لحظة ذهبية من نوعٍ مختلف؛ ليست من بريق القاعة، بل من وعيٍ متبادل بأن الخرائط لا تُرسم بالحبر وحده، بل بالتجربة، وبالقدرة على النجاة في عالمٍ لا يعترف إلا بمن يفهم إيقاع التحوّل.