مقالات
د قياتي عاشور يكتب : النظرية حياة: من الفكر إلى تغيير الواقع

هذا جيد في النظرية، لكن ماذا عن التطبيق؟” هكذا تساءل عالم الاجتماع الشهير مايكل بوراووي، في جملة تختصر قلقًا مشتركًا لدى كثيرين، خاصة عندما تبدو النظرية الاجتماعية بعيدة عن حياة الناس اليومية. في وقت تتزايد فيه التحديات الاجتماعية في مصر، يبرز سؤال مهم: هل يمكن أن تصبح النظرية أداة حقيقية لفهم الواقع وتغييره؟
في مجتمعنا، قد يُنظر إلى النظرية على أنها ترف أكاديمي، لكنها في الحقيقة يمكن أن تكون وسيلة لفهم ما نعيشه، والتفاعل معه بوعي. بوراووي، الذي دعا إلى “علم اجتماع عام” يخاطب الناس، يرى أن تعليم النظرية لا يقتصر على القاعات الجامعية، بل يمكن أن يكون مدخلًا لحوار أوسع مع المجتمع. وفي هذا المقال، نستعرض أربع دروس مستلهمة من كتاباته، توضح كيف يمكن أن نجعل الفكر الاجتماعي حيًا ومؤثرًا، خاصة في السياق المصري.
الدرس الأول: الطلاب يفكرون بطبيعتهم
يؤكد بوراووي أن الطلاب ليسوا صفحات بيضاء نملؤها بالمعلومات، بل هم يفكرون بشكل مستمر في واقعهم. الشاب المصري، على سبيل المثال، يفكر في ارتفاع الأسعار، في فرص العمل، أو في الفروق بين الريف والمدينة. دورنا هو أن نساعده على تحويل هذه الأسئلة اليومية إلى تفكير اجتماعي منظم، نكشف من خلاله ما وراء الظواهر التي يراها عادية.
الدرس الثاني: مواجهة الأفكار السائدة تحرر العقل
لكل طالب قناعاته وتصوراته عن الحياة، ولكن هذا لا يعني أن نتركها دون مساءلة. النظرية الاجتماعية تُعلّمنا أن كثيرًا مما نعتقد أنه “طبيعي” هو في الواقع نتاج ظروف اجتماعية وسياسية يمكن تغييرها. فعندما نعتقد أن الفقر أمر حتمي، أو أن التفاوت بين الناس لا يمكن تجاوزه، فإننا نقبل بالواقع كما هو. أما عندما نطرح أسئلة من قبيل “لماذا يحدث هذا؟” و”كيف يمكن تغييره؟”، فإننا نبدأ رحلة الفهم النقدي، التي قد تقود إلى التغيير.
الدرس الثالث: النظرية تُدرَّس مثل اللغة
تعليم النظرية لا يكون بإلقاء المحاضرات فقط، بل بالمشاركة والتفاعل. يشبّه بوراووي النظرية بلغة جديدة تُكتسب بالممارسة. يمكن للمدرس أن يبدأ بمفاهيم بسيطة من أعمال كبار المفكرين مثل ماركس أو دوركايم، ثم يربطها بتجارب الطلاب. مثلًا، يمكن شرح مفهوم “الاغتراب” من خلال حديث مع طالب يعمل في وظيفة لا يشعر فيها بذاته، أو ربط فكرة “التضامن” بالمواقف اليومية التي يتعاون فيها سكان حي شعبي لمواجهة أزمة ما. بهذه الطريقة، تصبح النظرية قريبة من الواقع، لا غريبة عنه.
الدرس الرابع: الحوار هو قلب العملية التعليمية
يرى بوراووي أن تدريس النظرية يجب أن يعتمد على الحوار، لا التلقين. حوار بين المفكرين، وبين الطالب والمعلم، وبين الفكرة والواقع. من خلال هذا الحوار، تتكوّن مساحة للتفكير الحر، ويبدأ الطلاب في طرح أسئلتهم الخاصة، وتكوين آرائهم المستقلة، يمكن أن يكون هذا الحوار مدخلًا لمناقشة موضوعات مرتبطة بتجارب الناس، مثل دور الدولة، أو البيروقراطية، أو العدالة الاجتماعية، من خلال قراءة متأنية ومقارنة لوجهات نظر مختلفة.
ختامًا: النظرية للجميع
ليس مطلوبًا من كل طالب أن يكون عالم اجتماع، لكن من حق كل فرد أن يفهم العالم الذي يعيش فيه. في ظل التحديات التي نواجهها اليوم — من الفقر والبطالة إلى التفاوت والاغتراب — يصبح تعليم النظرية الاجتماعية وسيلة لتمكين الناس من التفكير، والفهم، وربما التغيير.
مايكل بوراووي يذكّرنا بأن النظرية ليست حكرًا على النخبة، بل أداة يمكن أن يستخدمها كل من يسعى لفهم مجتمعه. فكيف يمكننا في مصر أن نُعيد ربط التعليم بالواقع؟ كيف نُحيي النظرية ونجعلها جزءًا من حياتنا اليومية؟ شاركنا أفكارك وتجاربك، فربما نبدأ معًا طريقًا نحو تعليم أكثر وعيًا، وفكر أكثر قربًا من الناس.










