حرية التعبير و الاساءة الى المقدسات الدينية بقلم: الدكتور جابر غنيمي
المساعد الاول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بالمهدية
مدرس جامعي
المقدمة:
في 2011، اثار فيلم كرتون ايراني اسمه ” برسبوليس”، تم بثه من طرف احد القنوات التلفزية الخاصة جدلا واسعا في تونس، و اعتبره الكثير من التونسيين استفزاز لمشاعرهم و اساء للمقدسات الاسلامية، بعد تجسيده لصورة الذات الالهية في احد المشاهد. و قد طفى الجدل مجددا اثر نشر نصا عن فيروس كورونا المستجد حمل اسم “سورة كورونا” من طرف مدونة تونسية على شبكات التواصل الاجتماعي. و تحاكي الصورة شكل الآيات القرآنية في القرآن الكريم. فبينما يرى البعض في ذلك حقا يتعلق بحرية التعبير تجب حمايته، يقول آخرون إنه يعزز الكراهية الدينية بين البشر، وبالتالي يطالبون بمنعه قانونا ومحاسبة فاعليه. وليس هناك مفهوم محدد لحرية التعبير وإنما هناك تعريفات متناثرة حول هذا المفهوم، إذ حاول كثير من الفقهاء التعرض له. و يمكن تعريف حرية التعبير بالحرية في التعبير عن الأفكار و الآراء عن طريق الكلام أو الكتابة أو العمل الفني بدون رقابة أو قيود حكومية بشـــــرط عدم تعارضها شكلا أو مضمونا مع قوانين و أعراف الدولة أو المجموعة التي سمحت بحرية التعبير. وقد تميزت حرية التعبير في العصور القديمة بامتهان كرامة الإنسان، وتفشى نظام الإقطاع وتحكم امتياز النبلاء وهيمنة رجال الدين، فأصبحت الكنيسة هي مصدر التشريع الذي لا يعارض، مما نجمت عنه تراكمات من العقوبات الوحشية باسم الدين، فانتشر القتال والاقتتال وغير ذلك من شتى أنواع مصادرة حرية الإنسان حتى أصبح كل من عبر عن استنكاره لتلك الجرائم يعدم بعد أن يعذب. و يرجع بدايات المفهوم الحديث لحرية التعبير إلى القرون الوسطى في المملكة المتحدة، فقد صدرت وثيقة ” الماغنا كارتا” او العهد الاكبر سنة 1215 بسبب ثورة النبلاء على الملك “جون”. وبعد الثورة التي أطاحت بالملك جيمس الثاني من إنكلتـــــرا عام 1688، أصدر البرلمان البريطاني قانــــون “حرية الكلام في البرلمان” سنة 1689. و بعد عقود من الصراع في فرنسا تم إعلان حقوق الإنسان و المواطن في فرنسا عام 1789 عقب الثورة الفرنسية التي تنص المادة 11 منه على أن “حرية التعبير من الحريات الأساسية للإنسان وتقر بأن لكل مواطن الحق في التعبير والكتابة والنشر بكل حرية إلا في حالات الإسراف في هذه الحرية وفقا لما يحدده القانون”. و تلت بعد ذلك محاولات في الولايات المتحدة في نفس الفترة الزمنية لجعل حريــة التعبير حقا أساسيا، لكن الولايات المتحدة لم تفلح في تطبيق ما جاء في دستورها لعامي 1776 و 1778 من حق حرية الرأي و التعبيـــر، حيث حذف هذا البند في عام 1798، واعتبرت معارضة الحكومة الفدرالية جريمة يعاقب عليها القانون، ولم تكن هناك مساواة في حقوق حرية التعبير بيـــــن السود و البيض. ويعتبر الفيلسوف جون ستيوارت ميل من أوائل من نادوا بحرية التعبير عن أي رأي مهما كان هذا الرأي غير أخلاقيا في نظر البعض، حيــــث قال ” إ ذا كان كل البشر يمتلكون رأيا واحدا وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأيا مخالفا فان إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيـــــــام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة “. و قد نادت الشريعة الإسلامية بهذا الحق سابقة في ذلك كل التشريعات والقوانين، فالمتدبر لآيات القرآن الكريم يتضح له أن القرآن جاء دعوة للناس ليتدبرو ويعقلوا، ويفقهوا ويتبصروا ويفكروا، فهو دعوة لإعمال العقل والفكر بكامل الحرية دون انغلاق و جمود، وفي ذلك يقول تعالى: ( اعلموا ان الله يحي الارض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون) الحديد71. و حث القرآن الكريم الناس على ان يستعملوا عقولهم و يفكروا ، قال تعالى ( و هو الذي انشاكم من نفس واحدة فمستقر و مستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) الأنعام 98. و لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة العامة لإبداء حرية الرأي وإنما كان يحث أصحابه على ممارستها معه، فكان يستطلع آراءهم في الشؤون العامة والمصالح الخاصة. ودليل ذلك ما حدث في معركة بدر عندما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أقرب ماء من وادي بدر فنزل به، فجاءه الحباب ابن المنذر وقال له: يا رسول الله أهذا منزل أنزلك الله به أم هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:” بل هو الرأي والحرب والمكيدة”، فأشار إليه الحباب ابن المنذر أن ينزل في موضع آخر غير الذي نزل فيه فقبل الرسول منه هذا الرأي وقال: ” لقد أشرت بالرأي” وتحول إلى مكان آخر . وقد سار الخلفاء الراشدون وأمراء المسلمين من بعدهم على تشجيع الرأي وقبول النصيحة ممن يسديها لهم والرجوع عن رأيهم متى وجدوا في رأي الآخرين صحة وصواب . وما أروع ما أفصح به عمر في هذا الصدد عندما تولى الخلافة فقد خطب في الناس يقول: ” إذا رأيتم فيّ اعوجاجا فقوموني فيقوم إليه رجل ويقول له لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا”. و الحق في التعبير مضمون في المواثيق الدولية و اغلب الدساتير و القوانين الوطنية، الا أن ممارسته يخضع لجملة من الضوابط و القيود. ان الحق في التعبير يجد مضمونه في القانون الدولي و الوطني ( الجزء الاول) و هو حق غير مطلق، لا يبرر الاساءة الى المقدسات الدينية ( الجزء الثاني) الجزء الأول: الأساس القانوني للحق في التعبير لقد تم اقرار الحق في التعبير في القانون الدولي ( الفقرة الاولى) و في القانون الوطنى ( الفقرة الثانية) الفقرة الاولى: الحق في التعبير في القانون الدولي اكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من خلال المادة 19 على الحق في التعبير: ” لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل واستيفاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بحدود جغرافية”. و نص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في مادته 19 “- لكل فرد الحق في اتخاذ الآراء دون تدخل. – لكل فرد الحق في حرية التعبير وهذا الحق يشكل حرية البحث على المعلومات والأفكار من أي نوع واستيلامها ونقلها بغض النظر عن الحدوث وذلك إما شفاهة أو كتابة أو طباعة وسواء كان ذلك في قالب فني أو بآية وسيلة أخرى يختارها”. و تم تضمين الحق في التعبير كذلك في اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، و الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع اشكال التمييز العنصري لعام 1969، و اتفاقية الامم المتحدة بشأن مكافحة الفساد لعام 2003… و قد تضمن القرار رقم 59 الصادر في 14 ديسمبر 1946 الذي تبنته منظمة الامم المتحدة التأكيد على حرية الوصول للمعلومات و على حرية التعبير . و اكد القرار رقم 4-301 الذي اعتمدته منظمة اليونسكو خلال مؤتمرها العام سنة 1970 على الدور الفعال الذي تقوم به وسائل الاعلام الجماهيرية في توطيد التفاهم على المستوى الدولي و القضاء على كل اشكال الدعايات التي تحرض على الحرب و العنصرية و الكراهية وسط الشعوب. و اشار القرار رقم 38/2000 الصادر عن لجنة حقوق الانسان في الدورة 56 الى ان القيود المفروضة على ممارسة الحق في حرية التعبير لا بد ان لا تأخذ الامن القومي كذريعة غير مبررة لتقييد الحق. كما صدرت عدة اعلانات تؤكد على الحق في التعبير من اهمها اعلان بشان المبادئ الاساسية الخاصة بإسهام وسائل الاعلام في دعم السلام و التفاهم الدولي و تعزيز حقوق الانسان ومكافحة العنصرية و الفصل العنصري و التحريض على الحرب الصادر عن المؤتمر العام لمنظمة الامم المتحدة للتربية و العلوم و الثقافة في 28 نوفمبر 1978، و اعلان ويندهوك الخاص بالصحافة المستقلة عام 1991 ، و اعلان طهران لعام 1989. و على المستوى الإقليمي صدرت عدة نصوص قانونية تتضمن الحق في التعبير. فقد تم تضمين هذا الحق في مجلس اوروبا صلب المادة 10 فقرة 1 من الاتفاقية الاوروبية لحقوق الانسان لعام 1950 ، و في اطار منظمة الدول الامريكية صلب المادة 13 من الاتفاقية الامريكية لحقوق الانسان لعام 1969 ، و في اطار منظمة الاتحاد الافريقي صلب المادة 9 من الميثاق الافريقي لحقوق الانسان و الشعوب لعام 1963 ، و في اطار جامعة الدول العربية صلب ديباجة الميثاق العربي لحقوق الانسان لعام 2004.
الفقرة
الثانية: حرية التعبير في القانون الوطني نص الفصل 31 من الدستور التونسي على ان”
حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام
والنشر مضمونة. لا يمكن ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات”. و نص
الفصل 1 من المرسوم عدد 15 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011 المتعلق بحرية الصحافة و
الطباعة و النشر” الحق في حرية التعبير مضمون و يمارس وفقا لبنود العهد
الدولي ذات العلاقة المصادق عليها من قبل الجمهورية التونسية و احكام هذا المرسوم.
و يشمل الحق في التعبير حرية تداول و نشر و تلقي الاخبار و الآراء و الافكار مهما
كان نوعها. لا يمكن
التقييد من حرية التعبير الا بمقتضى نص تشريعي و بشرط: – ان
تكون الغاية منه تحقيق مصلحة مشروعة تتمثل في احترام حقوق و كرامة الآخرين او حفظ
النظام او حماية الدفاع و الامن العام.
– و ان تكون ضرورية و متناسبة ما
يلزم اتخاذه من اجراءات في مجتمع ديمقراطي ودون ان تمثل خطرا على جوهر الحق في حرية
التعبير و الاعلام”. و تضمنت المادة 25 من الدستور المغربي و المادة
48 من الدستور الجزائري الحق في التعبير. وبموجب المادة 16 من دستور الاتحاد السويسري ؛ فإن حرية
التعبير عن الرأي، وتلقي المعلومات ونشرها، مكفولة لكل شخص. و تكفل المادة الخامسة من دستور ألمانيا
الاتحادية حريةَ الرأي والمعلومات والصحافة، حيث تنص على حق كل فرد في التعبير
الحر عن رأيه وترويجه شفاهيًا أو كتابة أو تصويرًا، وضمان حرية الصحافة وحرية
إعداد التقارير، وتقديمها عبر الفيلم والإذاعة. ولا يجوز فرض الرقابة أو القيود
على حرية التعبير إلا وفق لوائح وأحكام قانونية، تهدف إلى حماية الجيل الشاب،
وحقوق الآخرين المدنية وسمعتهم وشرفهم الشخصي. وجاء في ديباجة الدستور الفرنسي ، التي تعدّ، جزءًا
رئيسا من الدستور الفرنسي ” غداة الانتصار الذي حققته الشعوب الحرة على الأنظمة
التي سعت إلى استعباد وإهانة البشرية، يعلن الشعب الفرنسي مجدّدًا أن كل إنسان
يملك حقوقًا مقدسة وثابتة من دون تمييز على أساس الأصل أو الدين أو العقيدة “. وشدد المجلس الدستوري الفرنسي بأهمية الحق في التعبير عن الآراء
التي يسميها عادة “حرية المعلومات”، مؤكدًا على أن حرية التعبير عن
الرأي تعدّ بمنزلة “حرية أساسية ذات قيمة، وتعدّ ممارسة هذا الحق أحد
الضمانات الأساسية لصيانة حقوق الأفراد والسيادة الوطنية” (قرار المجلس
الدستوري الفرنسي الصادر في 19 – 20 أكتوبر 1984). إلا أن قرار المجلس الدستوري
الفرنسي الصادر في 27 جويلية 1982، اعتبر أن الحق في التعبير عن الرأي ليس مطلقًا،
ولا ذا طبيعة شمولية، حيث إن تحقيقه مرتبط بالإيفاء بمجموعة من المتطلبات. الجزء الثاني: ضوابط حرية التعبير: المقدسات الدينية حرية التعبير ليست مطلقة، حيث ترد عليها بعض
القيود، لكن يجب أن تكون في
أضـيق الحـدود، لضبط ممارسة الأفراد لها وللحيلولة دون استغلالها بشكل مغـاير
للغايـة والأهداف التي أُ قرت من أجلها، وهو الوصول إلى توازن منـصف بـين حقوق
الفرد وحرياته في مجتمع ديمقراطي، كما أنها مؤشر علـى احتـرام الدولة لهذا الحق
لأن التفاعل بين مبدأ حرية التعبير وهذه القيـود يوضح النطاق الفعلي لحرية الفرد،
أن تكون تلك القيود محـددة بـنص القانون و ضرورية لتحقيق أهداف وغايات محددة هي: –
احترام حقوق الآخرين وسمعتهم ، وهذا المبدأ يفرض احترام حقوق الآخرين و، يرد على
ممارسة حقوق الإنسان الأساسية فيما يعرف بمبـدأ حظر سوء استخدام الحقوق، فلا يجوز
لأحد أن يـبرر انتـهاك حقـوق الآخرين استناداً إلى حقوقه الخاصة ، وفي مجال حرية
التعـبير فـإن الهدف الأساسي لممارستها هو إنارة الرأي العام، ومده بالمعلومات
المفيدة وليس التعرض لسمعة الآخرين وسبهم وإذاعة الأخبار المجردة عنهم. – حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الـصحة
العامـة أو الآداب العامة، وهي مفاهيم تشترك جميعا في أنها نسبية ومرنة، تتغير و
تتطور ط بقا لما يسود المجتمع من حضارة وثقافة وتقاليد.
فمفهوم الأمن القومي يعني سلام الجماعة واستقرارها والتدابير التي
تتخـذ من الدولة لحماية الأراضي والاستقلال الوطني من أي خطر خـارجي، أو أي نشاط
عنف يضر بوجود الدولة ذاتها، مع الأخذ في الاعتبار أن حرية التعبير لا تعتبر تهديداً
للأمن القومي إلاّ إذا ثبت أن هناك علاقة مباشرة بين التعبير واحتمال أو وقوع
العنف. ومن الملاحظ أن مفهوم الأمن القـومي بدأ يتجاوز
المفهوم العسكري للخطر في الآونة الأخيرة، ويربط بينه وبين الرفاهية الاقتصادية،
والتوازن السياسي للدولة أو لمجموعة مـن الـدول ، وتأمين مصالحها ضد الأخطار التي تتهددها داخلياً
وخارجياً. أما مفهوم النظام العام ، فهو يتعلق بالكيان
الداخلي للمجتمـع، ويعـني مجموعة الأسس التي يقوم عليها كيان الجماعة سواء كانـت
سياسـية أو اقتصادية أو اجتماعية أو خلقية، وتجدر الإشارة إلى أن ما يعتبر من النظام
العام في بلد ما ، قد لا يعتبر كذلك في بلد آخر، وما كان من النظام العام في زمن
ما، قد لا يكون كذلك الآن . ويرتبط
مفهوم الآداب العامة بالنظام العام، وهي تعني مجموعة القواعـد الخلقية التي
يعتبرها الناس في أمة معينة، وفي جيل معين المعيـار الخلقـي والأدبي الذي يسود
مجتمعهم، ويضبط علاقاتهم الاجتماعيـة، ويلتزمـون باحترامها ولا يجيزون الخروج
عليها باتفاقات خاصة، وهي بذلك ت شكّل الجانب الأخلاقي لفكرة النظام العام، حيث أن
الأفراد لا يعيشون في عزلة ، وبالتالي ينبغي عليهم أن يحترموا حقوق الغير وحرياته
، و القواعد الأخلاقية التي يسلم بها المجتمع . ويرتبط
مفهوم الصحة العامة بالأمن الإنساني والحق في الـصحة ، كمـا نصت عليه المواثيق
الدولية والحق ببيئة نظيفة ، حيث أن تلوث البيئة مـن أهم عوامل تهديد
الصحة والوقاية من الأمراض المعدية والمتفشية ، وأن أي انتهاك من شأنه أن يعرض
الصحة العامة في المجتمع للضرر عـبر وسـائل الإعلام والتعبير المختلفة ، كإفشاء
معلومات عن مرض لم يتأكد بعـد، أو كارثة مشكوك فيها، يكون محلا للتقييد على النحو
سالف الذكر.
وأخيراً،
تجدر الإشارة إلى قيود أخرى ملزمة ويجب عدم مخالفتها عند ممارسة حرية الرأي
والتعبير، تتعلق بحظـر الدعاية للحرب والدعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو
الدينية والتمييـز العنصري وتجريم نشر الأفكار القائمة على أساسها. و لا
يمكن باسم حرية التعبير الاساءة الى المقدسات لأنه يمس من اسس و قيم وعقيدة
المجتمع، و يشكل اخلالا بالنظام العام و الامن العام، كما يشكل دعوة و تحريض على
الكراهية و التباغض بين الاديان . لقد نص الفصل 6 من الدستور على ان ” الدّولة راعية للدّين، كافلة لحريّة
المعتقد و الضّمير و ممارسة الشّعائر الدّينيّة، ضامنة لحياد المساجد و دور
العبادة عن التّوظيف الحزبي. تلتزم الدّولة بنشر قيم الاعتدال و التّسامح و بحماية
المقدّسات و منع النّيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التّكفير و التّحريض على
الكراهية والعنف وبالتّصدّي لها”،
فالدولة ملزمة بحماية المقدسات بما في ذلك القرآن الذي هو كتاب الله و يمثل
احد مقدسات المسلمين، و بإعتبار ان تونس حسب الفصل الاول من الدستورّ” … دولة حرّة، مستقلّة،
ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”. و
من هنا سأتعرض الى مفهوم الاساءة الى المقدسات الدينية ( الفقرة الاولى) و تجريم
الاساءة الى المقدسات ( الفقرة الثانية) الفقرة الاولى: مفهوم الاساءة الى
المقدسات الدينية ينظر الاسلام الى المقدسات الدينية باحترام، فقد جاء في
القرآن الكريم: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ”285″}(البقرة).
و قد تم التقنين تفصيلياً لاحترام جميع المقدسات غير الإسلامية في الوثيقة
الدستورية (العهد) التي جاء فيها: «ولنجران وحاشيتها، ولأهل ملّتها، ولجميع من
ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها، قريبها وبعيدها، فصيحها وأعجمها، جوار
الله وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم، وشاهدهم،
وعشيرتهم، ومن تبعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.. وأن أحرس دينهم وملتهم
أينما كانوا.. بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من ملّتي.. لأني أعطيتهم عهد
الله أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم.. حتى
يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم». ولقد
بلغ احترام الإسلام وتقديسه للخصوصيات الدينية لغير المسلمين الحد الذي تجاوز
«السماح»، بإقامة هذه الخصوصيات في الدولة الإسلامية، إلى «الأمر» بإقامة هذه
الخصوصيات، ففي القرآن الكريم: { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ
اللَّهُ فِيهِ }(المائدة:47). وانطلاقاً من هذا خاطب الصحابي الجليل حاطب بن
أبي بلتعة «المقوقس»، عظيم القبط بمصر،
عندما حمل إليه رسالة رسول الله “صلى الله عليه وسلم” ، فقال له: «…
ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به». ولم
تقف هذه السماحة عند دولة النبوة، بل كانت سمة عامة طوال تاريخ الإسلام؛ لأن
الدولة الإسلامية، التي تحرس الدين، هي الدولة التي يسوسها الدين، ويعلمها القرآن
الكريم أن التدافع والدفع ليس فقط لحماية المقدسات الإسلامية، وإنما لحماية جميع
دور العبادة الخاصة بكل أصحاب الشرائع الدينية: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}(الحج:40).
وعندما فتح المسلمون القدس سنة 15هـ/ 635م، أعطى الفاروق عمر بن الخطاب أهل
القدس من النصارى «العهد العمري» الذي ضمن لهم: «الأمان لأنفسهم، وأموالهم،
ولكنائسهم وصلبانهم، ولا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنْتقصُ من حيّزها، ولا
من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، لا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم…».
و لكن في الغرب تكررت
الإساءةُ إلى مقدَّسات المسلمين تكرارًا لافتًا للنظر؛ نالت من النبي الكريم محمد
صلى الله عليه وسلم ومن كتاب الله عز وجل وغير ذلك من المقدسات.
فقد
انتهكت حرمة كتاب الله ووضع في القاذورات والمرحاض في سجون جوانتانامو نكاية في
المعتقلين هناك، وشيء من ذلك أيضًا شهدته سجونُ الاحتلال الصهيوني، وفي رسالة نشرتها صحيفة
“فولكسكرانت” بعنوان “كفى.. امنعوا القرآن”، وصف النائبُ
الهولندي جيرت فيلدرز، رئيسُ حزب الحرية المصحفَ بأنه كتاب فاشي، وطالب بمنعه من
البلاد. وتعرّض النبي صلى الله
عليه وسلم للسخرية من خلال الرسوم المسيئة في صحف الدانمارك والنرويج والسويد، هذا
فضلاً عن المقالات التي عرضت له ولحياته بطريقة مهينة تنم عن حقد دفين.
واقترن الإسلام
بـ”الإرهاب” بعد الهجمة التي قادتها الولايات المتحدة عقب أحداث الحادي
عشر من سبتمبر، وظهرت الدعواتُ اليمينية التي تدعو إلى طرد المسلمين من أوروبا،
متزامنةً مع تصريح بابا الفاتيكان بأن الإسلام انتشر بالإكراه وحد السيف. و قد تعرضت المقدسات
الدينية كذلك الى الاساءة في عدة دول
عربية مثلما حدث في تونس و الجزائر و المغرب و مصر… و رغم جدلية
تحديد مفهوم “الاساءة الى المقدسات” في مختلف الأوساط الدينية والفكرية
والحقوقية العالمية، فإنه يقصد به بشكل عام عدة أشياء من بينها: تعمّد النيل من
الأديان ومعتقداتها وشخصياتها المقدسة لدى أتباعها، وإشاعة الأفكار النمطية
السلبية بشأنها، وتبني مواقف متعصبة أو تمييزية في مجال الديانات والمعتقدات. فجريمة الاساءة الى المقدسات المقصود بها القيام باستخدام الدين بأي وسيلة
كانت مثل الكتابة ، التصوير، النشر، القول وغير ذلك من وسائل العلانية في نشر
أفكار بهدف إثارة الفتنة أو الإساءة لأحد الأديان السماوية أو لمعتنقيه بهدف
الإضرار بسلام المجتمع ووحدته الوطنية. وتقوم الاساءة الى المقدسات بواسطة السخرية
او الاستهزاء. و يحرم الاسلام الاساءة الى المقدسات سواء الاسلامية او غيرها من
الديانات الاخرى. و هناك الكثير ممن «يخلطون» بين أمرين
متعاكسين للغاية، بين حرية التعبير، وبين التعدي على الآخرين و الاساءة الى
المقدسات الدينية، تحت شعار «حرية التعبير». فالأولى هي الفضاء المفتوح لإبداء
الرأي، دون الحاجة إلى مهاجمة الطرف الآخر بشراسة أو دون امتهان لكرامته وهويته
وإنسانيته، أما التعدي على حريات الآخرين والطعن في كرامتهم وشرفهم والسخرية من
معتقداتهم و شعائرهم الدينية أو أي أمر آخر له علاقة بخصوصيات الأفراد والجماعات
فهذا الأمر لا علاقة له بالحرية مطلقاً، وإنما هو نوع من أنواع الجريمة التي يعاقب
عليها القانون وترفضها الأخلاق.
الفقرة الثانية: تجريم الاساءة الى المقدسات الدينية
تعتبر مسألة الاساءة الى المقدسات من المواضيع التي أثارت جدلا واسعا
بين الحقوقيين وعلماء الدين ورجال القانون، بدءا من إشكالية ضبط المفهوم وتحديد دلالاته،
وانتهاء بمشمولات بنود القوانين المتعلقة به وكيفية استخدامها. فالمعارضون لتجريم الاساءة الى المقدسات يبدون خشيتهم من أن يقود ذلك
إلى التضييق على حرية الرأي والتعبير، والتحكم في النقاش المدني
المفتوح، وقمع المخالفين وتعزيز التطرف والتعصب الديني؛ كما أنه قد يعطي للحكومات
الحق في تحدید الأفكار المقبولة وغير المقبولة أخلاقيا، وهو ما قد يفتح الباب أمام
“خنق نقد الأديان والمؤسسات الدينية” ومضایقة المعارضین والأقلیات
الدینیة. ويشيرون أيضا إلى أن
“الأدیان تقدم ادعاءات متضاربة حول الحقیقة”، ويقولون إن لفظ “الاساءة
الى المقدسات” مصطلح غامض وغیر محدد، مما يجعل القوانين التي تحظره
“قابلة للتوسع بشكل عام” وللتطبیق “بشكل انتقائي وتعسفي
وتمییزي”. إضافة إلى أن هذا المصطلح ليس له أي أساس في القانون الوطني أو
الدولي.
ويردّ مؤيدو سن قوانین منع الاساءة
الى المقدسات بأن الهدف من التجريم هو “حماية المقدسات الدينية” وتطويق
مشاعر الكراهية للأديان، لأن انتشارها يهدد التعايش بين الأمم والحضارات بخطر
كبير، إذ يؤدي إلى الإخلال بالسلم الدولي، ويشكل “مساسا خطيرا بالكرامة الإنسانية”،
ويفرض قيودا على الحرية الدينية للمؤمنين بها. ويضيفون أنه لا ينبغي النظر إلى
تجريم ازدراء الأديان وكأنه تقييد لحرية الفكر أو كبت للحق في التعبير الذي يجب
ألا يستخدم لأذى الآخرين وإهانتهم، بل “كآلية للوقاية من التطرف والفتن”
الدينية والطائفية في المجتمعات البشرية التي يسببها التحريض على الحقد الديني
والعنف. و لا يتضمن القانون التونسي نصا خاصا وصريحا يعاقب على الاساءة للمقدسات
الدينية، و انما نجد نصوص عامة متفرقة
تتعلق بتشويه الرموز المعدة لممارسة الشعائر الدينية و النيل من الشعائر الدينية و
الدعوة الى التحريض على الكراهية بين الاديان.
نص الفصل 161 من المجلة الجزائية التونسية على انه
” يعاقب بالسجن مدة عام وبخطية قدرها مائة وعشرون دينارا كل من يتلف أو يهدم
أو يفسد أو يعيب أو يشوّه المباني أو الهياكل أو الرموز أو غير ذلك من الأشياء
المعدّة لممارسة الشعائر الدينية. والمحاولة موجبة للعقاب”. و الرموز
عبارة عامة يمكن ان تشمل جميع المقدسات الدينية.
و نص
الفصل 53 من المرسوم عدد 15 لسنة 2011 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011 المتعلق بحرية
الصحافة و الطباعة و النشر” يعاقب بخطية من الف الى الفي دينار كل من يتعمد
بالوسائل المذكورة بالفصل 50 من هذا المرسوم استعمال بيوت العبادة للدعاية الحزبية و السياسية و كل من يتعمد النيل من احدى
الشعائر الدينية المرخص فيه”
و نص الفصل 14 من
القانون الاساسي عدد 26 لسنة 2015 المؤرخ في 7 اوت 2015 المتعلق بمكافحة الارهاب و
منع غسل الاموال” يعد مرتكبا لجريمة إرهابية كل من يرتكب فعلا من الأفعال
الآتية
:
ثامنا:
التكفير أو الدعوة إليه أو التحريض على الكراهية أو التباغض بين الأجناس والأديان
والمذاهب أو الدعوة إليهما.
ويعاقب
بالسجن بقية العمر وبخطية قدرها مائة وخمسون ألف دينار كل من يقترف الفعل المشار
إليه بالصورة الثالثة أو إذا تسببت الأفعال المشار إليها بالصور الرابعة والخامسة
والسادسة والسابعة والثامنة في إلحاق أضرار بدنية من النوع المقرر بالصورة الثالثةّ يكون العقاب بالسجن مدة عشرين عاما
وبخطية قدرها مائة ألف دينار إذا تسببت الأفعال المشار إليها بالصور الرابعة
والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة في إلحاق أضرار بدنية من النوع المقرر
بالصورة الثانية.
ويعاقب
بالسجن من عشرة أعوام إلى عشرين عاما وبخطية من خمسين ألف دينار إلى مائة ألف
دينار كل من يقترف فعلا من الأفعال المشار إليها بالصور الرابعة والخامسة والسادسة
والسابعة.
ويعاقب
بالسجن من عام إلى خمسة أعوام وبخطية من خمسة آلاف دينار إلى عشرة آلاف دينار كل
من يقترف الفعل المشار إليه بالصورتين الثانية أو الثامنة”. و تجدر الاشارة الى انه في سنة 2012 تم تقديم مشروع
قانون الى المجلس الوطني التأسيسي لم تقع المصادقة عليه، يتمثل في إضافة فصل إلى
المجلة الجزائية التونسية ينص على أن الاعتداء على “المقدسات” يُعاقب
بالسجن لفترة تصل إلى سنتين اثنتين و غرامة مالية بألفي دينار. ويعرف مشروع
القانون المقدسات بأنها “الله سبحانه وتعالى، ورسله وكتبه وسنة رسوله الخاتم
والكعبة المشرفة، والمساجد، والكنائس “. كما ينص مشروع القانون على أن
الاعتداء يُقصد به أيضًا السب أو الشتم أو السخرية أو الاستهزاء أو الاستنقاص أو
التدنيس المادي والمعنوي للمقدسات الدينية. ويمكن إن يحصل الاعتداء بالكلمة أو
الصورة أو الفعل. كما يجرّم القانون أي تصوير للذات الإلهية والرسل. و تنص المادة 144 مكرر من قانون العقوبات الجزائري على
عقوبة بالسجن تتراوح بين 3 و5 سنوات
وغرامة تصل إلى 100 ألف دينار لكل من “أساء إلى الرسول” أو “استهزأ
بالمعلوم من الدين بالضرورة أو بأية شعيرة من شعائر الإسلام”. و صدر في المغرب عام 2016 القانون رقم
73.15 القاضي بتغيير وتتميم بعض أحكام القانون الجنائي، ويعاقب بالحبس من ستة
أشهر إلى سنتين وبغرامة من 20 إلى 200 ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من
أساء إلى الدين الإسلامي. وترفع العقوبة، إلى الحبس من سنتين إلى خمس سنوات،
وبغرامة مالية من 50 إلى 500 ألف درهم، إذا ارتكبت الأفعال المشار إليها أعلاه
بواسطة الخطب أو الصياح، أو التهديدات المفوه بها في الأماكن والتجمعات العمومية
أو بواسطة الملصقات المعروضة على العموم أو بواسطة البيع أو التوزيع أو بواسطة كل
وسيلة تحقق شرط العلنية بما فيها الوسائل الإلكترونية والورقية والسمعية البصرية.
وتعاقب المادة 372 من قانون العقوبات
العراقي بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات على الاعتداء الواقع على معتقد لإحدى
الطوائف الدينية او تحطيم شعائرها او تعمد التشويش على اقامة شعائر طائفة دينية او
على حفل او اجتماع ديني او تعمد منع او تعطيل اقامة تلك الشعائر او الاحتفال او
الاجتماع ومن خرب او اتلف او شوه او دنس بناءا معدا لإقامة شعائر طائفة دينية او
اذا حرف نصا عمدا تحريفا يغير من معناه او استخف بحكم من احكامه او شيء من تعاليمه
او اهان رمزا او شخصا موضع تقديس او تمجيد او احترام لدى طائفة دينية او قلد علنا
مسكا او فعلا دينيا بقصد السخرية منه، كما ان المادة 159 من هذا القانون تعاقب
بالسجن المؤبد كل من استهدف اثارة اقتتال طائفي.
و
تحدد المادة 98 من قانون العقوبات المصري عقوبة بالسجن لمدة تراوح بين 6 أشهر و5
أعوام وغرامة تراوح بين 500 و10000 جنيها لكل ” من استغل الدين في الترويج
بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير
أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة
الوطنية”.
وتستند القوانين السعودية إلى الشريعة الإسلامية التي تجرّم الردة، و تجعل
من كل أشكال الإساءة إلى الدين جريمة، قد تصل عقوبة بعضها إلى الإعدام. ونص قانون الجزاء الكويتي على أن “كل من أذاع، بإحدى الطرق
العلنية المبينة في المادة 101، آراء تتضمن سخرية أو تحقيراً أو تصغيراً لدين أو
مذهب ديني، سواء كان ذلك بالطعن في عقائده أو في شعائره أو في طقوسه أو في
تعاليمه، يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنة واحدة وبغرامة لا تجاوز ألف دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين”. و يعاقب القانون الإماراتي كل من ارتكب
جريمة الإساءة إلى أحد المقدسات أو الشعائر الإسلامية، بالحبس والغرامة أو بإحدى
هاتين العقوبتين وفق المادة 212 من قانون العقوبات الاتحادي رقم 3/1987 .
أما قانون العقوبات السوداني فهو من أكثر القوانين مطاطية في إمكانية
إضفاء صفة “الاساءة للمقدسات” على أي تعبير عن الرأي، إذ لا يحدد
الأفعال المكملة لأركان هذه الجريمة بل يكتفي بقوله “بأية طريقة”،
والعقوبة هنا هي الحبس مدة ستة أشهر، أو الغرامة، أو الجلد 40 جلدة. إضافة لتلك
المادة فإن القانون السوداني يضم مادة حول الردة، ويحكم بالإعدام على كل من يترك
الإسلام أو يعلن ما يفيد تركه الإسلام، وهذا إذا لم يتراجع عن موقفه قبل تنفيذ
الحكم.
وينص القانون الجنائي لماليزيا في المادة 298 على ان” أي شخص يقوم، بنية متعمدة لجرح
المشاعر الدينية أو العنصرية لي شخص، بالتلفظ بأي كلمة أو إصدار أي صوت على مسمع
من ذلك الشخص، يعاقب بمدة تمدد الى 3 سنوات او بغرامة أو بالعقوبتين معًا.” و
يجرم القانون الأنجلوسكسوني الإساءة للمقدَّسات، و يعتبره جرماً ومخالفة قانونية
اصطلح عليها بـ (Blasphemy).
لكن عقب توسّع مفهوم (Blasphemy) في السنوات الأخيرة داخل القانون البريطانيّ أصبحت
الانتقادات الموجَّهة للمسيحيّة تُدان فقط في حالة اشتمالها على الإساءة وتجاوز
المألوف .
و هذا يدفعنا إلى تساؤل أهمّ من أيِّ شيءٍ آخر، وهو: ما المنطق في بريطانيا
الذي دعاها إلى تأسيس هذا القانون واختزاله على مقدَّسات الدِّين المسيحيّ دون غيره
من الدّيانات الأخرى؟ ألا يُعارض هذا القانون مبدأ إلغاء التمييز بين الأديان
ممَّا ورد في العديد من المواثيق الدوليَّة وحقوق الإنسان؟
أمَّا بالنسبة
لقضيَّة (سلمان رشدي) وإساءاته للرسول(صلى الله عليه و آله و سلم) في كتاب
(الآيات الشيطانيَّة) التي أطلقها من داخل الأراضي البريطانيّة فقد قالت المحكمة
البريطانية هناك إنّ قانون
(Blasphemy) مقتصر
فقط على المقدَّسات المسيحيّة، ويعد الإساءة لها جرماً ومخالفة ولا يشمل أبداً
الأديان الأخرى .
وقد أنصف بعض الحقوقيّين الغربيين اعتراضات المسلمين تجاه هذا القانون
وعدّوا هذه الانتقائيّة شكلاً من أشكال التمييز الدينيّ، ورأوا أنّ القانون يُخالف
المادتين 9 و14 من المعاهدة الأوروبيّة لحقوق الإنسان التي منعت جميع أشكال
التمييز على أساس الدّين . و قد قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 25 اكتوبر 2018،
بتجريم الإساءة للرسول محمد صلى الله عليه و سلم، انتصرت للمقدسات
الدينية ورفضت إدارج الحط من قدر المقدسات بعمومها ومنها العقيدة
الإسلامية، ضمن حرية الرأي والتعبير، لتؤيد بذلك حكم المحكمة الجنائية الإقليمية
في فيينا بالنمسا في 15 فيفري 2011 التي كانت صاحبة السبق في رفض السماح
بالطعن في النبي محمد، واعتبرته تجاوزًا لحدود الحرية المكفولة للأشخاص، ويدخل ضمن
نطاق الاستهزاء المجرم.
و تعود أحداث الواقعة إلى عام 2009، حينما عقدت سيدة
نمساوية ندوتين تحدثت خلالهما عن زيجات الرسول صلى الله عليه وسلم، واشتملت
الندوتان على الطعن في النبي محمد صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به والسخرية منه.
و تم
الالتجاء إلى المحكمة الجنائية الإقليمية في فيينا للفصل:هل هذا الطعن في النبي
محمد صلى الله عليه وسلم يدخل في حرية التعبير، فيكون من حق هذه السيدة النمساوية
وغيرها الطعن في النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، أم أن هذا يعد تجاوزا لحدود
الحرية المكفولة للأشخاص، ويدخل ضمن نطاق الاستهزاء المجرم مراعاة لمشاعر المسلمين
الذين يؤمنون بنبوة ورسالة محمد بن عبد الله، وبوجوب احترامه وإجلاله. و
قد أصدرت المحكمة الجنائية
الإقليمية في فيينا في 15 فبراير2011 حكمها بأن هذه التصريحات المسيئة التي
أطلقتها السيدة النمساوية ” تهين المعتقدات الدينية” ، كما قضت المحكمة
بتغريمها 480 يورو، إضافة إلى مصاريف التقاضي. وأيدت
القرار محكمة الاستئناف في ديسمبر من العام ذاته، بعد أن طالبت السيدة بالاستئناف
على الحكم. و قد ايدت المحكمة الاوروبية لحقوق
الانسان الحكم المشار اليه في 25- أكتوبر 2018، وقررت أن الطعن في النبي محمد صلى الله عليه
وسلم لا يدخل ضمن الحرية الشخصية. واعتبرت المحكمة الأوروبية أنّ تصريحات السيدة
النمساوية “تجاوزت الحد المسموح به في النقاش، وتصنف كهجوم مسيء على رسول
الإسلام، كما تعرض السلام الديني للخطر”. واعتبرت
المحكمة الأوروبية : ” إن المحاكم المحلية (في النمسا) قامت بتوازن دقيق بين
حق المرأة في حرية التعبير وحق الآخرين في حماية مشاعرهم الدينية، والحفاظ على السلام
الديني في النمسا”.
الخاتمة: لئن كان الحق في التعبير مضمون في القانون الدولى و القوانين
الوطنية، الا انه لا بد من التفرقة بين حرية التعبير و بين الطعن في عقائد الآخرين
و ازدراء اديانهم و الاساءة الى المقدسات. و يتجه ممارسة حرية التعبير دون المساس
بالمقدسات الدينية. فحرية التعبير دلالة على الوعي و
التحضر، لكن شرط ألا تكون هجوما على دين أو عرق أو ملة أو رموز دينية أو أماكن
مقدسة أو معتقدات الإنسان الخاصة. و تنتهي
حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين في احترام مقدساتهم و شعائرهم و طقوسهم و معتقداتهم…