فن و ثقافة

جميلة الهوني تتألق علي  مسرح محمد الخامس بالرباط في “ضريبة العشق” 

صفاء أحمد آغا: : الرباط / المملكة المغربية

في لحظة مسرحية نادرة، يلتقي حضور تمثيلي قوي بتجربة إخراجية راسخة ليشكلا معاً عرضاً يعيد الاعتبار لفن المونودراما ويعيد صوته إلى الواجهة من جديد. هذا ما قدّمته مسرحية “ضريبة العشق”، التي تؤدي بطولتها الفنانة جميلة الهوني بإحساس متفجّر، تحت قيادة الممثل والمخرج المغربي عبد الحق الزروالي، أحد أبرز الوجوه التي طبعت المسرح المغربي لأربعة عقود وأكثر.

حكاية امرأة تواجه العالم… بصوت واحد

تستند مسرحية “ضريبة العشق” إلى نص درامي يفتح الباب على تجربة إنسانية معقدة، تعيشها امرأة وجدت نفسها محاصرة بين ذاكرة مثقلة، وحاضر يسائل قدرتها على الاستمرار.
هي امرأة تحاول أن تُفلت من قيود علاقة خلّفت فيها جراحاً عميقة، علاقة تتأرجح بين الحب والخديعة، بين الحلم والانكسار.

لا وجود لشخصيات مساعدة في العرض، ولا لمُحاور يخفف عنها وطأة الكلام. وحدها، تقف على الخشبة، تحكي وتجادل وتصرخ وتهمس، في حوار داخلي يُشعر المتلقي بأنه يتلصص على اعترافات سرية تُقال لأول مرة.

جميلة الهوني… جسدٌ يصوغ الحكاية وصوتٌ يقود الإيقاع

تقدم جميلة الهوني في هذا العمل واحداً من أكثر أدوارها نضجاً على مستوى التعبير الجسدي والصوتي.
فالمونودراما، بطبيعتها، امتحان قاسٍ لأي ممثل؛ إذ تُسقط عنه كل وسائط الدعم، وتتركه في مواجهة الجمهور، كما لو كان في مسافة مكشوفة بين الصدق والتورط.

تميز أداء الهوني في النقاط التالية:

1. توظيف الجسد كأداة سرد

لم يكن جسدها مجرد حامل للحركة، بل أداة لبناء المشاعر. تتجسد القسوة في انحناءات كتفيها، ويظهر الخوف في تردد خطواتها، بينما يطلّ بصيص الأمل كلما استقامت وقفتها.

2. طاقة صوتية متنوّعة

تتنقل الهوني بين الهمس والاحتجاج، بين السخرية والهشاشة، لتخلق إيقاعاً درامياً يجعل المتفرّج متشبثاً بتفاصيل الأداء.

3. صدق عاطفي يحرّك الجمهور

لم تلجأ إلى المبالغة، رغم الطبيعة الانفعالية للنص، بل اعتمدت الصدق الداخلي الذي يُشعر المتلقي بأنه أمام شخصية حقيقية، لا ممثلة تؤدي دوراً مكتوباً.

عبد الحق الزروالي… إخراج يجعل من الصمت بطلاً إضافياً

يحمل عبد الحق الزروالي إلى هذا العمل خبرة طويلة في كتابة وإخراج المونودراما. وقد ظهرت بصمته واضحة في التعامل مع الفضاء المسرحي والضوء والإيقاع.

1. هندسة الفراغ المسرحي

اختار الزروالي أن يترك الخشبة شبه عارية، باستثناء عناصر قليلة ذات دلالات رمزية، ليمنح البطلة حرية أكبر في التحرك، وليفسح المجال للخيال كي يملأ المساحات.

2. توظيف الضوء كمرآة نفسية

الإضاءة ليست مجرد تقنية في العرض، بل لغة موازية للنص.
– بقعة ضوء ضيقة تجسد العزلة.
– ظلال ممتدة توحي بالمطاردة النفسية.
– ضوء ساطع في لحظات المواجهة الداخلية.

3. إيقاع متدرّج يحترم التحولات النفسية

لم يتعجل الزروالي التصعيد الدرامي، بل سمح للشخصية بأن تنضج أمام الجمهور، من الانكسار إلى الاعتراف، ومن الصمت إلى المواجهة، وصولاً إلى لحظة التحرر الرمزي.

نصّ يطرح أسئلة المجتمع من خلال سيرة فرد

رغم أن المسرحية تدور حول تجربة امرأة واحدة، إلا أنها تنفتح على أسئلة أكبر:
• كيف يُفرض الحب أحياناً كقيد لا كخيار؟
• ما الحدود بين التضحية والانسحاق؟
• وهل تتحمل المرأة وحدها “ضريبة العشق” في مجتمع يبرر الأخطاء باسم التقاليد؟

النص يقدّم هذه الأسئلة دون خطاب مباشر أو شعارات جاهزة، بل من خلال بناء نفسي لشخصية تعيش صراعاً داخلياً يجعل المتفرج يفكر في نماذج مشابهة في محيطه.


سينوغرافيا تجمع بين البساطة والرمزية

تشتغل السينوغرافيا على الاقتصاد في الوسائل، لكنها ثرية بالرموز:
• كرسي وحيد يعكس العزلة.
• حقيبة صغيرة تفتح شهيّة التأويل: هل هي حقيبة ذكريات؟ أم هروب؟
• قماش ممتد قد يكون ستراً أو جداراً أو ظلّاً لشخص غائب.

هذه البساطة أتاحت مساحة واسعة لتألق الأداء الفردي، كما حافظت على تركيز المتلقي على الخط الدرامي.

تفاعل نقدي وجماهيري يؤكد نجاح التجربة

عرف العرض، منذ تقديمه الأول، تفاعلاً كبيراً من الجمهور والنقاد.
فقد أشاد المتابعون بجرأة اختيار المونودراما، وبالانسجام القوي بين رؤية الزروالي وأداء الهوني. كما أثنى آخرون على قدرة العمل على تحريك مشاعر الجمهور، وإثارة نقاشات حول قضايا العلاقات العاطفية والضغط الاجتماعي.

النقاد رأوا في المسرحية إضافة نوعية للمشهد المسرحي المغربي، خصوصاً في ظل ندرة الأعمال المونودرامية النسائية التي تمنح صوتاً داخلياً واضحاً للمرأة

 عمل ينتمي إلى مسرح الاعتراف ويُعيد الثقة في قوة الممثل المغربي

تمثل مسرحية “ضريبة العشق” تجربة فنية تجمع بين العمق الإنساني والبساطة الجمالية، وبين الأداء المنفرد والتقنيات الإخراجية المدروسة.
إنها رحلة داخل وجدان امرأة تواجه الأسئلة الكبرى للوجود، وتدفع ثمن الحب بكل ما فيه من شغف ووجع.

وبفضل التألق الكبير لجميلة الهوني، والرؤية الإخراجية المحكمة لعبد الحق الزروالي، ينجح العمل في إعادة إحياء المونودراما كفن قادر على لمس المتلقي وتحريك الوعي، معزّزاً مكانة المسرح المغربي في المشهد العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى