مقالات
جذور مشروع التفتيت … من سايكس بيكو إلى الفوضى الخلاقة

بقلم: ناصر السلاموني
منذ أن رسمت القوى الاستعمارية خرائط الشرق العربي بالحبر الغربي والعقل الماكر، وُضِعَت البذور الأولى لمشروع التفتيت الكبير. ففي اتفاقية سايكس–بيكو عام 1916، لم يكن الهدف منه مجرد تقسيم أرضٍ أو حدودٍ، بل كان تفكيك كيانٍ حضاري ظلّ متماسكًا قرونًا طويلة رغم اختلاف اللغات والمذاهب والأعراق. كانت تلك الخطوط المرسومة على الورق بدايةً لتحويل الأمة العربية إلى دويلات، تتنازعها الولاءات وتستنزفها الصراعات.
لم يقتصر الأمر على الجغرافيا، بل امتد إلى التاريخ نفسه. فتمّ إعادة كتابة السرديات الوطنية والقومية لتتناسق مع المصالح الاستعمارية الجديدة. أصبحت كل دولة منشغلة بحدودها المصطنعة وتاريخه فقط، وكل دولة تراقب جارتها بريبةٍ وخوف. ومع مرور العقود، تكرّس هذا الواقع حتى صار التشرذم هو الأصل والوحدة استثناءً عابرًا.
ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتفتح فصلًا جديدًا من فصول السيطرة غير المباشرة، عبر أدواتٍ جديدة غير السلاح فكانت اقتصادية وثقافية وسياسية. وظهرت الجامعة العربية في هذه الفترة، ولكنها وُلدت في ظل النفوذ البريطاني والفرنسي، لتكون أداة توازن أكثر منها أداة توحيد. ومع صعود الحركات القومية في منتصف القرن العشرين، بدت لحظة الأمل قريبة، غير أن تلك اللحظة ما لبثت أن انقلبت إلى صراعٍ على الزعامة بين العواصم العربية نفسها.
فكانت نكسة عام 1967 علامة فارقة في الوعي العربي، إذ كشفت هشاشة الأنظمة وانقسام الصفوف، ومهّدت الطريق لتغلغل النفوذ الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة. لم يعد الاستعمار بحاجة إلى جيوشٍ جرّارة، بل إلى إعلامٍ موجّه، وسوقٍ مفتوح، ونزاعاتٍ داخلية تُدار من بعيد. وهكذا بدأت مرحلة “التفتيت بالوكالة”، حيث تتولى القوى المحلية تنفيذ ما عجزت عنه القوى الاستعمارية القديمة.
وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، أُعيد إحياء المشروع القديم تحت مسمّى جديد: “الفوضى الخلاقة”. مصطلحٌ برّاق يخفي خلفه خطةً محكمة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق مقاييس القوة الكبرى. فالعراق أُنهك بالحروب، وسوريا غُرِقت في الدماء، واليمن تاه بين القبائل والسلاح، وليبيا تحوّلت إلى ساحة صراعٍ بين الشرق والغرب. وكل ذلك يجري تحت شعارات الحرية والديمقراطية، بينما الحقيقة أن الهدف هو تقويض أي دولة عربية تمتلك مقومات النهوض أو وحدة القرار.
لقد أثبتت العقود الأخيرة أن مخططات التفتيت لم تتوقف عند حدود الخرائط، بل طالت العقول والنفوس. فتمّ تأجيج الصراعات المذهبية، وتضخيم الفوارق العرقية، وتغذية النزعات الانفصالية، حتى بات العدو الحقيقي غائبًا عن المشهد، وتحول الصراع إلى داخل البيت الواحد.
إن ما جرى في الماضي لم يكن مجرد مؤامرة عابرة، بل مسارًا متدرجًا من الهيمنة الفكرية والسياسية والاقتصادية، تتوارثه القوى الكبرى وتُلبسه ثوبًا جديدًا في كل عصر. فحين فشل الاحتلال العسكري المباشر، جاء الاحتلال الاقتصادي، وحين واجهت الهيمنة الاقتصادية مقاومة، أُطلقت أدوات الإعلام والتفكيك الثقافي، وحين اشتد وعي الشعوب، أُضرِمت نار الفتنة باسم الدين والطائفة.
وهكذا، ظلّ مشروع التفتيت قائمًا ومتجدّدًا، يتبدّل في الأسماء والوسائل، لكنه يحتفظ بالجوهر ذاته: منع العرب من استعادة وعيهم الجمعي، وإبقاء الأمة في دوامةٍ من الصراع المستمر، حتى تغيب عنهم بوصلتهم التاريخية ويذوب حلم الوحدة في زحام الأزمات.










