مجتمع
ثورة الشباب والأمن القومي
سؤال يطل برأسه علينا كل سنة بمناسبة ذكرى الثورة. فالجميع يطرح علينا نفس السؤال: ماذا حصدت تونس بعد 10 سنوات عجاف من الثورة التي قادها الشباب؟
هذا الشباب الذي كان وقودها و هيجانها و قلبها النابض، فلم يبق منها سوى صراع بين حاضر يئن من أوجاع المطلبية و التناحر بين الأحزاب و تصفية رموزنا الوطنية عبر الاغتيالات لتحقيق مصالح ذاتية رخيصة و إخراج الثورة عن مسارها لتتحول إلى ثورة جياع.
بسبب سلوكيات و اختيارات سياسية فاشلة لكل الحكومات المتعاقبة و التي لم تخلف وراءها إلا التراكمات، و بين ماض يصر على استنساخ نفسه للبقاء و بين مستقبل مجهول تشوبه الضبابية و ضياع الطموح.
نحن اليوم في رحلة البحث عن الحلم، وهذا الحلم أمام أعيننا ألا وهو شبابنا ! إلا أن ساستنا حولوا هذا الحلم إلى سراب، إلى هاجس و عبء على البلاد.
نحن اليوم نقف أمام هول الكارثة التي اجتاحت نسبة كبيرة من شبابنا الذي يعتبر المخزون الإستراتيجي للبلاد حيث يمثل 60% من تعداد السكان و جزء منه يعاني مضاعفات نفسية عميقة بسبب تعثر منوال التنمية لكل الحكومات المتعاقبة و الحالية و حتى القادمة لكونها لم تقطع مع سلوكيات عمقت التهميش و الفوارق الطبقية و الجهوية و المحلية أيضا.
لذا فالإعتناء بهذا المخزون الإستراتيجي للبلاد والإستثمار السليم و المدروس هو ملف أمن قومي بامتياز، فهذه نقطة ضعف تحسب لكل الساسة و هذا موطن فشلهم.
اليوم يتعين على الباحثين في المجال الإستراتيجي أن يدرجوا مصطلحا حديثا في مفهوم الأمن القومي و كذلك الأمن الشامل و هو الأمن الشبابي ،
فحراك الشباب هو وقود كل الثورات و هو من أسقط نظام بن علي و هو من اعتصم في القصبة و باردو، و بالتالي لا أمن شامل بدون أمن شبابي و لا أمن قومي بدون سياسة لا تعتمد في أصولها على عنصر الشباب، فضمان أمننا القومي مرهون بالتعاطي الإيجابي مع ملف الشباب ،،، يا أيها الساسة.
لتعلموا أن مفهوم الأمن هو من أصعب المفاهيم لكونه نسبيا و مركبا و شاملا و متغيرا لاحتوائه أبعادا ظاهرة و أخرى باطنية تطفو عند الأزمات.
فالنظرية الأمنية يجب ألا تكون أفقية الأبعاد بل تتخذ أشكالا هندسية متغيرة ليتسنى لها التكيف مع الأوضاع و الأزمات و يتقاطع في صلبها المعطى الأمني
و العسكري و الدبلوماسي و التنموي و الاجتماعي و الاقتصادي و الصحي و الغذائي و المائي و البيئي و الشبابي.
لهذا يجب أن يكون مفهوم الأمن الشامل متكاملا و متقاطع الأبعاد غايته تسريع وتيرة التنمية في البلاد و التعاطي الإيجابي و الموضوعي مع مشاغل البلاد و قضاياها الجوهرية.
إن هدر هذا المخزون الإستراتيجي الذي يزخر بالطاقات والكفاءات عبر سياسات التهميش والإقصاء و العزل أدى بفئة من شبابنا إلى السقوط في أحضان الخطاب المتطرف في ظل غياب الخطاب السياسي البناء و انعدام التأطير و المراقبة،
فوظفوه كوقود محرقة في بؤر التوتر. واختارت فئة أخرى أمواج البحر المتوهج كحل للنجاح الاجتماعي. و قدمت مراكز الإحصاء أرقاما مفزعة
بخصوص وضعية شبابنا منها /
– نحو 12000 تم تسفيرهم للتمرس على الإرهاب و منع عدد أكبر من السفر لبؤر التوتر.
– 60% منهم بين 13 و 18 سنة في حالة إدمان على المخدرات. و تبلغ في صفوف الطالبات 40% مقابل 10% قبل الثورة.
أما حالة الإحباط بينهم فهي كالآتي /
– يعتقد 70% من الشباب أن البلاد تسير في طريق مسدود.
– يشارك 1% منهم في الحياة السياسية، و هو ما يشير إلى أن الإستحقاقات القادمة سوف يشوبها عزوف كلي للشباب و بالتالي قد يسجل فيها انحرافات خطيرة في النتائج لسد الشغور الذي قد يخلفه هذا العزوف.
للخلاص من هذا المشهد القاتم الذي يعكس لدى الشباب حالة من الحيرة و اليأس و الإحباط .
فإن قرابة 50% منهم ينوي مغادرة البلاد للبحث عن فرص النجاة و لو بالمجازفة بحياتهم .
و فعلا قد عبر البحر خلال سنة 2011 قرابة 30000 شاب متوجهين إلى إيطاليا و التهم البحر منهم أكثر من 1000 شاب… بينما يتواصل تدفق قوارب الموت على إيطاليا.
كما أن الإنقطاع المبكر عن الدراسة جعلت من شبابنا فريسة سهلة للإنحراف
و الجنوح و الإنغماس في الجريمة و تحول العنف إلى لغة تخاطب و تواصل
و مصدر للكسب و الرزق ، و سجلت تونس أعلى نسبة بطالة للشباب في بلدان جنوب و شرق المتوسط.
و أتساءل اليوم عن الجدوى الحقيقية من امتلاك الدولة لمؤسسات تضخ عليها الأموال و أخرى مساندة كان من المفروض عليها الاهتمام بالشباب و بمشاغلهم .
أين دور الأحزاب التي تحولت إلى صالونات للثرثرة ، و أين جمعيات المجتمع المدني و مراكز البحوث الإستراتيجية،
فأين وزارات الشباب و الرياضة و التعليم و الثقافة وهذه الأخيرة تحولت إلى وزارة مهرجانات،،،
ووزارة التشغيل التي لا تحمل من التشغيل إلا الإسم…
أين مفهوم أمنكم الشامل ؟
أين تصورات الأمن القومي ؟
و ماذا فعل الفساد في مستقبل أبنائنا ؟
كل الحكومات فشلت في التعاطي مع ملف التشغيل و القدرة على توليد الوظائف و لجم البطالة و الإستثمار في الطاقات الشبابية.
فملف الشغل و الشباب سيبقى ملفا حارقا للحكومة الحاضرة و الحكومات القادمة على مدى سنين طويلة.
و سيبقى الشباب وراء سقوط كل الحكومات فتعافي الدولة في تعافي شبابها
و انهيارها في إقصاء شبابها و هيبة الدولة في احترام شبابها و سلامة أمنها في تحقيق أمن شبابها.
من هذا المنطلق أنصح الساسة و كل من يهمه أمن تونس و ازدهارها بالبحث عن رؤية استراتيجية للتعاطي مع ملف الشباب و السعي إلى حل إشكالياته
و احترام حقوق المواطنة عوضا عن توخي مسارات عقيمة و سياسات ردود الفعل كتدابير تكتيكية ظرفية غير مجدية.
المرحلة القادمة ستكون الأصعب في تاريخ البلاد و ستطلب من الجميع جهدا إضافيا لإعادة الثقة في هذا المخزون الحيوي و من الأجل البناء من أجله.
فالمطلوب منكم أيها النخب المفكرة و أيها الساسة احترام هذا الشباب الحالم بحسن الظن به و استقطابه عبر اسناد المناصب العليا له ليكون موقعه في الصدارة ممسكا بمقود البلاد و هو المكان الذي فشلتم فيه !
لأن الشباب هو صمام الأمان و أملها و مستقبلها و قوتها و عنفوانها. و بالتالي لا نريد أن يتوقف حلمه فهو عماد المستقبل المشرق لتونس اليوم و تونس الغد. فهو الجزء النابض و الحيوي لكل مشروع لبناء البلد.
و من يريد أن يصنع وطنا زاهرا و حداثيا حقيقيا فعليه أن يستثمر في شبابه
و أن يثق به و يقطع مع سياسة الوصاية لأن الشباب هو الخير كله.
نحن اليوم في حاجة إلى حلول إبداعية للخروج من الأزمة و شبابنا يملك الإبداع فانصتوا إليه و لا تتجاهلوه فحلمه لم و لن يموت.
فما حصل في تونس ليست بثورة جياع و إنما هي انتفاضة شباب. و من لم يفهم هذا من الساسة فقد حان وقت رحيله.
إذا يترتب على القائمين على شؤون البلاد ما يلي :
– تشبيب نخب القرار و ذلك بضخ دم جديد يعطي مؤسسات الدولة حيوية و عنفوانا و مصداقية و مخيلة إبداعية للنهوض بالبلاد.
– إعادة صياغ عقد اجتماعي جديد للقضاء على الجهوية و المحسوبية ،و التهميش و الإقصاء و الفساد و المحاصصة الحزبية ،
– بعث مجلس أعلى للشباب .
و لن تكون الثورة القطة التي تلتهم أولادها عندما تجوع.
فاروق خلفاوي مكلف بالإعلام والعلاقات الخارجية
بمركز البحوث و الدراسات الأمنية ورئيس تحرير الحرة نيوز