(اقترابٌ أكثر) العتبات.. اللغة التصويرية .. السيمترية بقلم/ أ. رقية عبدالنبي البوسيفي

(اقترابٌ أكثر) مجموعة شعرية جديدة للأستاذ الأديب يونس شعبان الفنادي تصدر خلال هذا العام 2020م ضمن منشورات الهيئة العامة للثقافة، وهو الإصدار الثاني له في جنس الشعر بعد (لعينيكِ أغني) الصادر عن اللجنة الوطنية لرعاية الشباب سنة 2010م.
وفي الوقت الذي أبارك فيه هذا الإصدار أخترتُ أن أتناول بعض جوانبه الفنية والموضوعية على النحو التالي:
أولاً: العتبات..
لاشك أن العتبة النصية التي تتصدر العمل الأدبي لها من الأهمية ما لها .. ومن الدلالة الشيء الكثير الوفير، فالجملة أو المفردة لا تقلْ جزافاً لتزيين العمل الأدبي أياً كان جنسه.. فتقدم سيلاً من المفردات وجيشاً من العبارات عبئت بدفقاتٍ من الشحنات الشعورية والنفسية التي تلاطمت أمواجها وأثيرت براكينها في مخيلة الشاعر .. لتظهر عملاً أدبياً تتلقفه أبصار النقاد والقراء وبصائرهم .. وتشتغل به مخيلتهم بناءً متعدد المكونات لغةً وصورةً وإيقاعاً..
فالعتبة قناة مفضية إلى فحوى النص وروحه.. وكشّافا متوهِّجا يمكن توجيهه داخل العمل المُنتج. والأديب يتخير العتبة التي يراها مدخلاً حقيقياً لنصوصه .. سواءً كانت العتبة الأساسية التي تصدرت المؤلَف أم عتبات النص الداخلية الأخرى ..
وبالنظر في ديوان (اقترابٌ أكثر) تخيّر الفنّادي العتبة من مفردتين اثنتين ..هما (اقترابٌ) التي جاءت مصدراً لتتيح له شتى أزمنة الاقترابِ ماضٍ وحاضراً ومستقبلاً .. فالاقترابُ إذن اقترابٌ جميلٌ لا يُشاء له انقطاع.. ومن ثم كانت صيغة المبالغة (أكثر) على وزن أفعل مناسبةً جداً لهذا الاقتراب..
ولكن..
اقترابٌ مما؟؟
لولا مجيء العتبة الأولى في الديوان والتي تحمل العنوان “قبل البدء” موضحة الأبعاد الحقيقية والمجردة لمساحات الاقتراب فهي:
(للزمن..
للمسافة..
للنص..
للشعر..
للنثر ..
للوطن..
للارض..
للمكان..
للحب ..
للوجد..
للذات..
للإنسان..
اقتراب أكثر)
لكان للمتلقي فرصة تأويل هذا الاقتراب، والسماح لخياله بالإبحار في فضاءات تخمين وتفسير عديدة لعله يصل بها إلى بعض اليقين أو الإدراك الحسي والفكري لفحوى تلك العتبة الأساسية.
وتضمنت المجموعة الصادرة للفنادي (اقترابٌ أكثر) عدداً من النصوص بلغت (24) نصاً، وهي على التوالي: قبل البدء، انحياز، أنت وحدك، نيرون لم يمت بعد، تاءاتٌ عشر وأخر، نداءٌ إلى جدي، أغنيةٌ لك، شِجَار، بلا اعتراف، لا عجب، الطين، إطلالة، عش جديد، هدية الثمانين، حلم امرأة، اجتماع، الغياب سيكون حاضراً معك، هوى تونس، صه، ترنيمة، توقف أيها الحلم، مرآة، لباس، ثلاثية الوجد .
وقد تكررت العتبات المصادرية في المجموعة، فبعد اقتراب نجد “انحياز، شجار، بلا اعتراف، اطلالة، اجتماع، لباس” لتخوض التوسع بين مساربها. وإجمالاً لم تكن النصوص طويلةً جداً وإنْ تفاوتت بين الطول والقصر مما جعل بعض القصائد مقسمة إلى مقطعات مرقمة. والقصائد المرقمة هي الأخرى تفاوتت في أعداد مقطعاتها فكانت في “لا عجب” مقطعتين، وفي “ترنيمة” و”توقف أيها الحلم” و”ثلاثية الوجد” ثلاث مقطعات. أما في “نيرون لم يمت بعد” أربع مقطعات وفي “الغياب سيكون حاضراً معك” خمس مقطعات، ولكن أطولها كان في “عشٌ جديد” حيث وصلت إلى ثمان مقطعات، وهذا بالطبع له مدلوله أيضاً. كما أن بعض القصائد كانت إهداءً خصَّ به الشاعر شخوصاً بعينهم مثل الشاعر الكبير “محمود درويش” والفنانة العربية الشهيرة “فيروز”.
ثانياً: اللغة
هي الأداة التي يستعملها الأديب أو الشاعر للتعبير عمَّا يجول في نفسه من أحاسيس. وهي أهم ركيزة يُقام بها صلب العمل الإبداعي. فاستحضار الصور، واستنطاق المعالم، وبثّ الروح في كل مكونٍ، لا يكون إلاَّ من خلال لغة قوية. وعلى هذا فقد أجاد الفنّادي اقتناء قوالب لغوية صارمة الدقة، بدءًا من المفردة اليتيمة التي استجلبها، فكانت شديدة الاختزال وهذا واضح من عناوينه التي اختارها. وبعد المفردة اللغوية ومروراً بأشباه الجملة ووصولاً إلى الجملة التامة، نلاحظ نضج مفرداته المنتقاة بعناية، وتحملها عبءَ المعاني التي تمكن من التقاط الصور الحسية بدقةٍ عاليةٍ. وبالإضافة إلى امتلاكه مرتكزات اللغة النقية تمكن الفنّادي من خلق صور فنية بتقنيات عالية الجودة، فاستطاع بلغته تلك، خلقَ صورةٍ ونحتَ مكوناتها لتظهر مجسماً واضحاً داخل النص الشعري لا يختلف عن المنحوتات المادية التي نراها ونلمس سطحها بأناملنا، فمثلاً في قصيدة الطين:
(أيها الطين
أنا منك وإليك
تشكلت أوصالي
يديك
ترفق بى
فمرجعي
ومآلي
إليك)
هذه صورة رائعة تحمل العديد من الصور التجسيمية، فهل للطين يد ..؟ وهل نحن شكلّنا الطين أم هو الذي شكّلنا؟ وهل هو الطين الذي نعرفه أم طين آخر خُلقنا منه..؟ وهل سنتحول بذلك إلى آية ما في كتاب الله العزيز وهي تخبرنا عن خلق الإنسان؟؟
كل هذا البوح الوجداني العميق يمثل تناصاً، ورمزاً، وقناعاً بأعلى وأنقى مراتب اللغة. كما أنه أضاف إلى تلك المنحوتات المصوّرة روحاً ونفساً، وكثيراً ما خلق لها من جسد المرأة، وأوصافها، وسماتها، وجمالياتها، هيكلاً تأطرت به. فالعين والجدائل والقلوب والنظرة والهمس والحضن واللقاء والشوق، وحتى اللباس “القمجة” كان حاضراً، ولاشك أنه بعد تلك الاستجلابات والتخليق الفني للصور ينزاح بها إلى فناء أرحب ليجعل معشوقته إحدى ثلاث:
(الوطن) أو (ليبيا) أو (طرابلس) فكانت صورة فنية جميلة استرسلت ثم تضمخت بدهاء الكتابة وتحوير المشهد الفني.
أخيراً: الفضاءات (السيمترية والتشكيل البصري)
ثمة شكل آخر للقصيدة المعاصرة وبعيداً عن اللغة، وعن الصورة، وعن الإيقاع .. فإن القصيدة المعاصرة بدأت تنتقل إلى حيز آخر معلنة انزياحها من منطقة السماع المغلقة، واندياح فاعليتها، إلى مرحلة جديدة ومنطقة وليدة، وهي مرحلة الجماليات الطباعية والكتابية. إذ أنَّ القصيدة المعاصرة تعتمد على العين أيضاً فالسيمترية تتصل بعصر الكتابة والطباعة، وطريقة طباعة النص تفسح المجال لقراءته، وتقصّي ما يختبئ منه، اتكاءًا على شكله الطباعي. فخارطة توزيع الكلمات في نصه (قبل البدء) تمثلت في ملء كل سطر بكلمةٍ واحدة فقط، وترك باقي الفضاء أبيضاً ليكمله المتلقي، مستخدماً في ذلك أدواته التي يمتلكلها، غائصاً في عالم السيمولوجيا مترامي الأطراف:
(للزمن..
للمسافة..
للشعر..)
وهذه البياضات تعطي مجالاً للقارئ بملئها وتتبع ما يمكن أن تحمله لو أن الأديب مشف عنها. وقد تكررت في نص “نيرون لم يمت بعد” الحركة العمودية للفضاء الأبيض في خاتمة القصيدة، عندما وضعت الكلمة بشكل مقطع:
(بل حبيبتي ليبيا تبعثرت.. و ت م ز ق ت)
لتترك للقارئ حجم المأساة!!
وأخيراً .. يمكنني أن أختتم هذه القراءة الاستعجالية وملاحظاتي حول (اقترابٌ أكثر) في نقطتين هما:
أولاً استغنى الشاعر عن المقدمة التقليدية والتي تستنزف الكثير من الجهد في محاولة للكشف عن فكرة الديوان، وناور من جانب آخر فكانت المقطوعة الأولى( قبل البدء) تقديماً مختزلاً ببلاغة أكثر، فلم يترك ظهورها مجالاً لتفقد المقدمة.
وثانياً فقد كانت النصوص شديدة النشاط والحركة، وعجت بالحياة المتناغمة في نسقٍ مبدع نكاد نتحسس أنفاسها في تلك الجنينة التي صورها الشاعر:
(الجُنينة تتوشح الفل والياسمين
وتتباهى بجيران العطر والنعناع
تشاكس حبات الرمل وعذابات العطش
وتفتح ذراعيها لشجيرات زاهية برية
تتنفس الإخضرار)
فالحديقة صارت سيدة تزدان بوشاح من الفل والياسمين .. والنعناع ربما صار كائناً جميلاً يتحرك ويشاكس حبات الرمل .. والموجة الطرابلسية التي زارته أكرمها بشاطئٍ من خياله .. واستحضار النبات ذو الرائحة الزكية المنعشة ربما يشكل علامة مميزة للديوان فهو يفوح بالياسمين والفل والحبهان والقرنفل واللوز والبرتقال والورد .. وبذلك أحسستُ أن ولوجي (اقترابٌ أكثر) كان ولوجاً لحديقةٍ غنّاء فواّحة، زد على هذه المعطرات الطبيعية رائحة البخور والعنبر والجاوي والوشق وهي روائح تربطنا بمواسم الخير ومناسبات الفرح .. وأيضاً لم تكن زغاريد العصافير والحمام.. وحركات الفراش .. والقمر والشمس والنجوم وقوس قزح والموجة الطرابلسية والصحو والمطر وكل ما من شأنه إنعاش النصوص واستمرارية نشاطها بمعزل عن هذا الاقتراب الحسي الوجداني الجميل.
إذاً .. (اقترابٌ أكثر).. الإصدار الجديد للشاعر يونس الفنادي … هو سفرٌ للداخل.. وإبحارٌ للباطن ..وغوصٌ للكامن .. وهذا كل ما نحتاجه لثلاثية دلالات ومعاني نصوص الإصدار وهي: ليبيا .. الوطن …طرابلس.
(*) – كاتبة تحمل درجة الماجستير في الأدب والنقد من قسم اللعة العربية بأكاديمية الدراسات العليا، طرابلس – ليبيا