استقلالية القضاء في زمن تفشي وباء كورونا بقلم: الدكتور جابر غنيمي
المساعد الاول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بالمهدية
يقول الله تعالى في الآية 21 من سورة الغاشية ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ… ﴾
ابتدئ بهذه الاية الكريمة لأذكر كل من لم يتفطن او لم يدرك او تغافل عن الادراك ان تونس عرفت ثورة الحرية و الكراة، و تخلصت من نظام الاستبداد، و اعتمدت دستور في 27 جانفي 2014 نص في الفصل 102 ” القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات. القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون”. كما ينص في الفصل 114 ” يضمن المجلس الأعلى للقضاء حسن سير القضاء واحترام استقلاله. وتقترح الجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة الإصلاحات، وتبدي الرأي في مقترحات ومشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء التي تعرض عليها وجوبا، ويبتّ كل من المجالس الثلاثة في المسار المهني للقضاة وفي التأديب”.
روي ان أحد ولاة
الاقاليم طلب من الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز أن يرخّص له ببناء سور لحماية
مدينته من مداهمة بعض المتمردين او المعارضين او الخارجين، فما كان من الخليفة
وبدلاً من ارسال المال له ليستكمل بناء السور، الاّ أن يخاطبه بالقول “سوّر
مدينتك بالعدل”. و
قال ” ونستون تشرشل” اثناء الحرب العالمية الثانية ” ما دام القضاء و العدالة في البلاد بخير فكل البلاد بخير
“. العدل
هو صمام الامان لضمان سلم وأمن المواطن والوطن، فالقضاء يلعب دورا جوهريا في ايصال
الحقوق لأصحابها و المحافظة على السلم الاجتماعي و الاستقرار السياسي. و القضاة يفصلون في كل ما يمّس حياة
الناس وأموالهم وأعراضهم من مشكلات ومنازعات تعرض عليهم، كما يسهمون بقسط كبير في انعاش الاقتصاد بما ان
القضاء يشجع رجال الاعمال على الاستثمار في الداخل و الخارج دون خشية على اموالهم
من السطو عبر الفساد و الرشوة. ويعتبر
مبدأ استقلال القضاء من المبادئ المستقرة في الضمير الانساني، وذلك لتحقيق هاجس
العدالة، وهو اضافة إلى ذلك دليل الحكم الصالح وعلامة من علامات الاستقرار. ان الأصول التاريخية لمبدأ استقلال السلطة القضائية تعود إلى
الشريعة الإسلامية التي تتميز بالصبغة العاطفية المثالية، التي تجعل الفرد أيا كان
مركزه يمارس مهامه بالشكل الذي يقضيه الضمير الأخلاقي و الاجتماعي، و على وجه
الخصوص مهمة الحاكم، هذا الأخير الذي يتحمل مسؤولية مزدوجة أولها أمام الله عز وجل
و ثانيها أمام الشعب، بحيث أكدت في مجموعة
من النصوص القرآنية و النبوية و كذا الممارسة القضائية الإسلامية على ضرورة امتثال
القاضي في ممارسته لمهامه القضائية لقواعد الشريعة و العدالة و الإنصاف و عدم
التفرقة بين الناس على أساس أي معيار غير التقوى،
فقد قال الله تعالى: ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا
حكمتم بين الناس أن تحكمو بالعدل ) .
و علاوة على هذا فقد تكرس
هذا المبدأ على مستوى الممارسة القضائية الإسلامية و خصوصا في الرسالة المختصرة
التي أرسلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى القاضي أبي موسى الأشعري، يؤكد فيها
على مبدأ الشورى و محاسبة الضمير و الحكم بما أنزل الله في كتابه الحكيم .
أما في الفكر القانوني الغربي فقد ظهر هذا المبدأ عمليا بعد القرن 18 بحيث
نادى به مجموعة من علماء السياسية و فلاسفة الأنوار كمونتيسكيو في كتابه روح
الشرائع و بيكاريا و جون لوك و جون جاك روسو، نظرا لما وصلت إليه شؤون الحكم من
انحطاط و ما وصل إليه الحال من انهيار تام لقيمة الإنسان و ضياع للحقوق و إهدار
للحريات الإنسانية، فقد كان الحاكم يجمع بين جميع السلط و يقضي بالعقوبة دون سند
قانوني سابق يجرم الفعل موضوع العقاب .
فطبقا لمبدأ فصل السلط الذي
نادى به مونتيسكيو فإن السلطة التنفيذية تمارسها الحكومة التي تدير مرافق الدولة و
السطة التشريعية تعمل على سن القانون و السلطة القضائية تعمل على البت في
المنازعات عن طريق تطبيق القانون . واستقلال
السلطة القضائية يعني أن يمارس القاضي مهامه القضائية عن طريق إصدار الأحكام
بالتطبيق السليم و العادل للقانون وفقا لما يقتضيه شعوره بالعدالة، دون أي تدخل من
طرف السلطة العامة و أن لا يخضع لأي تأثير مادي أو معنوي من أي جهة أيا كانت
صفتها. ان موضوع استقلال القضاء شأن يتجاوز
بكثير حدود القضاة أنفسهم إذ أنه في جوهره وثيق الصلة بقضية العدل وميزان الحرية
في المجتمع، وفي العالم المتحضر فإن قيمتي العدل والحرية تتأثران سلبا وإيجابا
بمقدار ما هو متوافر من استقلال للقضاء في كل بلد، لذلك فإننا حين ندافع عن
استقلال القضاء ونتشبث به، فإنما ندافع عن أنفسنا في حقيقة الأمر، وحين يستشعر
القضاة قلقا من جراء نقصان استقلالهم, فإن ذلك القلق ينبغي أن ينسحب علينا
تلقائيا.
إن استقلال القضاء
ليس ترفاً، وليس خيارا للشعوب أو الحكام .. بل هو حتمية حياة وضرورة وجود .. بغيره
يأكل القوى فينا الضعيف، ويفتقد المظلوم من يلوذ به ويثق في استقلاله ونزاهته، وهو
صمام الأمان للمتقاضى قبل القاضي .
والحديث عن دولة
المؤسسات وعن مبدأ سيادة القانون وعن المشروعية في دولة لا يوجد فيها قضاء مستقل
يصبح نوعاَ من العبث، لأن هذه الأمور جميعا مرتبطة ارتباطا وثيقا لا ينفصم، فحيث
يوجد إيمان بمبدأ المشروعية وسيادة القانون وحيث يوجد الدستور، فان السلطة
القضائية المستقلة تأتى كنتيجة طبيعية، أما عندما يختفي مبدأ المشروعية وعندما لا
يكون هناك إيمان بمبدأ سيادة القانون، فانه لا يمكن تصور وجود سلطة قضائية مستقلة
في مواجهة بطش السلطة التنفيذية.
و من هنا سأطرح موضوع استقلال القضاء
و ما تواجهه من تحديات و عراقيل امام محاولة السلطة التنفيذية المساس من
استقلالية القضاء و ما نلاحظه من عبث و فوضي في المراسيم و الاوامر الحكومية التي
تم اتخاذها بمناسبة تفشي جائحة كورونا. و استقلالية القضاء تقودنا الى الحديث عن الاساس
القانوني ( الجزء الاول) و مقومات و
تحديات الاستقلالية (الجزء الثاني)
الجزء الاول: الاساس القانوني لاستقلالية
القضاء استقلالية القضاء ضمانة اساسية لتحقيق العدل
و استقرار المجتمع. و هو ليس ترفا او منة او هدية من احد. و
قد تم تكريس هذه الاستقلالية في القانون الدولي ( الفقرة الاولى) و القانون الوطني
( الفقرة الثانية) الفقرة الاولى: في القانون الدولي قد ارتقى مبدأ استقلال السلطة القضائية إلى مصاف
المبادئ العالمية التي أكدت عليها مختلف المواثيق الدولية و الإعلانات الحقوقية و
الدولية على اختلاف مشاربها. وقد اولت المواثيق والصكوك الدولية لحقوق الانسان أهمية خاصة لاستقلال
القضاء ، فهذه
ديباجة ميثاق الأمم المتحدة تؤكد تصميم شعوب العالم على بيان الأحوال التي يمكن في ظلها
تحقيق العدالة ومنها “الحق في نظام قضائي نزيه ومستقل” ، وكذلك
النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية الذي نص على تكوين هيئة المحكمة من قضاة
مستقلين . و اكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المؤرخ في 10 ديسمبر 1948، على ذلك
في المادة (10) منه التي نصت أن: ”
لكل إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنظر قضيته محكمة
مستقلة ومحايدة، نظرًا منصفًا وعلنيًا، للفصل في حقوقه والتزاماته وفى أي تهمة
جزائية توجه إليه”. و ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي اعتُمد،
ودخل حيز النفاذ بتاريخ 23 مارس 1979، في المادة 2 منه على أن: ” تتعهد كل
دولة طرف في هذا العهد باحترام الحقوق المعترف بها فيه، وبكفالة هذه الحقوق لجميع
الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، دون أي تمييز بسبب العرق، أو
اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيًا أو غير سياسي، أو الأصل
القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب”. وتضمنت
المادة 14 منه أن: ” الناس جميعًا سواء أمام القضاء، ومن حق كل فرد، لدى
الفصل في أي تهمة جزائية توجه إليه، أو في حقوقه والتزاماته في أي دعوى مدنية، أن
تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم
القانون”.
و في النصف الثاني من القرن العشرين، قامت لجنة الحقوقيين الدوليين في
جنيف، في عام 1978، بإنشاء مركز لاستقلال القضاء يعمل على تطوير مبادئ هذا
الاستقلال في جميع أنحاء العالم، كما كان لجهد كلٍ من لجنة الأمم المتحدة لحقوق
الإنسان، واللجنة الفرعية لمحاربة التمييز وحماية الأقليات، التابعة للجنة حقوق
الإنسان، إضافة إلى لجنة الأمم المتحدة لمنع الجريمة، الدور المهم في صدور الإعلان
العالمي حول استقلال القضاء، الصادر عن مؤتمر مونتريال في كندا عام 1983، والذي
أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 ديسمبر 1985، وأكدت مواد هذا الإعلان
عددًا من عناصر استقلال القضاء كما يلي: – كفالة الدولة لاستقلال السلطة القضائية. ويتم النص على ذلك دستورياً او
قانونياً لكل بلد، ومن واجب السلطات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة
استقلال السلطة القضائية.
– تفصل السلطة القضائية
في المسائل المعروضة عليها دون تحيز وعلى اساس الوقائع ووفقاً للقانون ودون اية
تقييدات او تاثيرات غير سليمة او اية اغراءات او ضغوط او تهديدات او تدخلات مباشرة
كانت او غير مباشرة من اية جهة او لاي سبب. – للسلطة القضائية الولاية على جميع المسائل ذات الطابع القضائي. – لا يجوز وجود اية تدخلات غير لائقة او لا مبرر لها في الاجراءات القضائية
ولا تخضع الاحكام القضائية التي تصدرها المحاكم لاعادة النظر، ولا يخّل هذا المبدأ
باعادة النظر القضائية او بقيام السلطات المختصة وفقاً للقانون بتخفيف او تعديل
الاحكام التي تصدرها السلطة القضائية. – لا يجوز انتزاع الولاية القضائية التي تتمتع بها المحاكم العادية او الهيئات
القضائية بإنشاء هيئات قضائية استثنائية. ومن حق كل فرد ان يحاكم امام المحاكم
العادية او الهيئات القضائية القائمة. الاستثناءات من هذا الحكم هو حالة الطوارئ
العامة والحالات التي تهدد الامة ولكن للاستثناءات شروط مع القواعد المعترف بها
دولياً.
– مع كفالة مبدأ استقلال
السلطة القضائية فان الامر يتطلب ضمان الاجراءات القضائية بعدالة واحترام حقوق
جميع الاطراف.
– من واجب كل دولة عضو
ان توفر الموارد الكافية لتمكين السلطة القضائية من اداء مهامها بطريقة سليمة.. و
اعتبرت مبادئ بنغالور بشأن السلوك القضائي الذي اعتمدته المجموعة القضائية في اجتماع الدائرة المستديرة لرؤساء المحاكم
التي عقدت بقصر السلام في لاهاي في 25-26 نوفمبر 2011 ، أن السلوك القضائي ينبغي أن يقوم على ستة قيم
أساسية و هي ( الاستقلالية و الحيادية و النزاهة و الملائمة و المساواة و الكفاءة
) ، كما اكدت في مادتها الأولى أن استقلال القضاء يكون شرطا أوليا لمبدأ الشرعية و
ضمانة أساسية لمحاكمة منصفة. و
اكد الميثاق العالمي للقضاة و الذي وافق عليه المجلس المركزي للاتحاد الدولي
للقضاة في 17 نوفمبر 1999 في المادة الاولى ضمان المحاكمة العادلة من قبل محكمة
مستقلة ومحايدة منشئة بموجب القانون.
و تؤكد مبادئ ” مجلس بيرغّ” بشأن استقلال السلطة القضائية
الدولية على الاستقلال التام للقضاة عن اطراف النزاع في القضايا التي تنظر امامهم
، و منع أي تأثير سواء كان مباشر او غير مباشر من أي شخص او مجموعة او كيان. كما أكدت المؤتمرات الدولية على مبدأ ترسيخ
استقلال القضاء والمحاماة في كثير من توصياتها نذكر منها على سبيل المثال مؤتمر
العدالة الجنائية في العالم الغربي الذي عقد في مدينة سيراكوزا بجمهورية ايطاليا
عام 1985 وتوصيات المؤتمر الأول للجمعية الدولية لقانون العقوبات (الشعبة المصرية)
الذي عقد في القاهرة في مارس 1987. وتضمنت المادة 3 من الميثاق الافريقي لحقوق الانسان و الشعوب ان الناس
سواسية امام القانون و الحق في حماية متساوية امام القانون.
و تضمن المادة 6 من الاتفاقية الاوروبية لحقوق الانسان الحصول على
محاكمة عادلة امام محكمة مستقلة و عادلة .
و كفلت التوصية رقم 2 لسنة
1994 بشأن استقلال و كفاءة و دور القضاة الصادرة عن لجنة الوزراء بمجلس اوروبا
استقلال القضاة. و اكد الميثاق الاوروبي بشأن النظام الاساسي للقضاة و
المذكرة التوضيحية الصادر عن مجلس اوروبا في 8-10 جويلية 1988 على ضمان استقلال
القضاة. و نصتالمادة 8 من الاتفاقية الامريكية لحقوق الانسان على الحق في محاكمة
عادلة امام محكمة مختصة مستقلة غير متحيزة. ونصت
المادة 11 من مشروع ميثاق حقوق الانسان والشعب في الوطن العربي الصادر 1987 (على
ان الناس متساوون امام القضاء وتكفل الدولة استقلال القضاء وحياده كما تكفل
استقلال مهنة المحاماة). الفقرة الثانية: في القانون الوطني
نص
الفصل 102 من الدستور التونسي” القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية
الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات. القاضي مستقل لا سلطان عليه في
قضائه لغير القانون”. ونص الفصل الاول من القانون الاساسي عدد 34 لسنة
2016 المؤِرخ في 28 أفريل 2016 يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء ” المجلس الأعلى
للقضاء مؤسسة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلالية السلطة
القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها.
يتمتع المجلس
بالاستقلال الاداري والمالي والتسيير الذاتي وله السلطة الترتيبية في مجال
اختصاصه”.
ونصت المادة 64
من الدستور الفرنسي لسنة 1958 (على ان رئيس الجمهورية يضمن استقلال هيئة القضاء
ويعاونه في ذلك مجلس القضاء الاعلى) . ونصت المادة 92 من دستور المانيا الاتحادية
لسنة 1949 على ان (يعهد بالسلطة القضائية الى قضاة وتتولاها المحكمة الدستورية
الاتحادية، والمحكمة العليا الاتحادية، والمحاكم الاتحادية التي ينص عليها هذا الدستور
ومحاكم الولايات) . والمادة السابعة من الدستور التركي لعام 1961 نصت على ان تتولى
محاكم مستقلة ممارسة السلطة القضائية باسم الامة التركية والمادة 76 من الدستور
الياباني لعام 1963 على السلطة القضائية تمارسها المحكمة العليا والقضاة مستقلون
لا سلطان عليهم لغير ضمائرهم وهم لا يلتزمون في قضائهم الا احكام الدستور والقانون.
وتنص المادة 155 من الدستور الحالي للاتحاد السوفييتي والتي تقابل المادة 112 في
دستور 1936 ان (القضاة والمحلفون الشعبيون مستقلون لاسلطان عليهم لغير القانون) ..
في الدستور المصري لسنة
1971 تنص المادة 165 على ان (السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف
انواعها ودرجاتها، وتصدر احكامها وفقا للقانون) ، ونصت المادة 166 على ان (القضاة
مستقلون ولا يجوز لاي سلطة التدخل في شؤونهم) وتنص المادة 28 من دستور الجماهيرية
العربية الليبية (على ان القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون) .
وتنص المادة 120 من الدستور السوداني الانتقالي لسنة 1985 على ان تكون ولاية
القضاء في جمهورية السودان لسلطة منفصلة ومستقلة تسمى السلطة القضائية. وتنص
المادة 122/2 على ان (القضاة مستقلون في مهامهم القضائية لا سلطان عليهم الا بحكم
القانون) . وينص الفصل 77 من الدستور المغربي لعام 1972 على ان (القضاء مستقل عن
السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية) . وتنصف المادة 131 من الدستور السوري على
ان (السلطة القضائية مستقلة، ويضمن رئيس الجمهورية، هذا الاستقلال يعاونه في ذلك
مجلس القضاء الاعلى) . وتنص المادة 131 من الدستور اللبناني على ان (السلطة
القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصها، ضمن نظام ينص عليه
القانون، وان القضاة مستقلون في اجراء وظيفتهم، ان شروط الضمانة القضائية وحدودها
يعينها القانون). كما تنص المادة الاولى من قانون اصول المحاكمات المدنية على ان
(المحاكم مستقلة كل الاستقلال تجاه جميع السلطات في تحقيق الدعاوى والحكم بها) . اما
الدستور العراقي فقد نصت المادة 60 منه على ان (القضاء مستقل لاسلطان عليه لغير
القانون) واورد الدستور الاردني نصا على ان (القضاة مستقلون لا سلطان عليهم لغير
القانون (97). اما دساتير الخليج فقد اكدت استقلال السلطة القضائية، ولايجوز بحال
التدخل في سير العدالة، ويكفل القانون استقلال القضاء ويبين ضمانات القضاة،
والاحكام الخاصة بهم (المواد 162 من دستور الكويت و 14 من الدستور المؤقت للامارات
العربية و (101) 2 من دستور دولة البحرين. اما في المملكة المعربية السعودية فقد
نص الامر الملكي السعودي رقم 59 لعام 1972 على ان (تنفذ الاحكام الصادرة من الشرع
بدون تغيير او تأخير او تبديل) . واخيرا نص دستور جمهورية اليمن الديمقراطية في
مادته 121 على ان (القضاة مستقلون في صلاحياتهم) .
الجزء الثاني: مقومات و تحديات استقلالية القضاء يقتضي تحقيق الاستقلالية جملة من المقومات ( الفقرة الاولى ) و لكن هذه الاستقلالية تواجهها جملة من التحديات ( الفقرة الثانية)
الفقرة الاولى: مقومات استقلالية القضاء
تتمثل مقومات استقلالية القضاء في عدة مظاهر:
1- الاستقلالية العضوية: اي النظام القانوني الذي يحمي القضاة و القضاء من اية تبعية لسلطة اخرى و من اي تدخل او ضغط خارجيين سواء كان ترهيبا ام ترغيبا.
وتنص توصية لجنة وزراء المجلس وزراء المجلس الاوروبي رقم 12 R94- في المبدأ الاول الفقرة 2- د انه ” يقتضي بالقانون معاقبة اي شخص يحاول الضغط على القضاة” في القرارت الصادرة عنهم. كما تستعيد توصية اللجنة رقم 12 R2010-القاعدة نفسها معتبرة انه ” ينبغي ان ينص القانون على عقوبات ضد الاشخاص الذين يسعون الى التأثير على القضاة بطريقة غير سليمة و غير ملائمة”. و تنص المادة 9 من الدستور التونسي على ” يحجر كل تدخل في سير القضاء”.
2- الاستقلالية الوظيفية: و تعني ان للسلطة القضائية الولاية الحصرية على كافة الوسائل ذات الطبيعة القضائية. و هذا مايشير اليه المبدا رقم 3 من المبادئ الاساسية للامم المتحدة. و بشكل متلازم لا يجوز للسلطتين التنفيذية او التشريعية التعرض للوظائف القضائية.
3– الاستقلالية المؤسساتية: و هي احدى الضمانات الاساسية لتحصين منعة القضاء على الصعيدين العضوي، و غالبا ما تترجم بانشاء مؤسسات مستقلة تتولى ادارة الشؤون القضائية و مجمل ما يتصل بالمسار المهني للقضاة من ترقية ونقلة و تاديب. و احدث في تونس المجلس الأعلى للقضاء وهو هيئة دستورية تونسية ضامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها طبق الفصل 114 من الدستور.
4- الاستقلالية الذاتية او الفردية: و تعني استقلالية القاضي من ازاء أي نوع من التدخلات او الضغوط في مجرى حكمه بقضية معينة سواء كان من خارج السلطة القضائية او من داخل الجسم القضائي. و عرفت شرعة بنغالور للاخلاقيات القضائية الاستقلالية الذاتية بانها” استقلال القضاة خلال ممارستهم لوظيفهم من القضاة زملائهم في الاحكام التي يتوجب عليهم اتخاذها بكل استقلالية”.
5- الاستقلالية المادية: و يعد من الضمانات الاساسية لاستقلالية القضاء. فتوفير الموارد لتمكين القضاء من اداء وظيفته من موجبات كل دولة . و يتمثل ذلك في منح القاضي اجرا يلبي له حاجياته يتناسب .مع انظمة و كرامة و مسؤولية الوظيفة القضائية.
فلا بدّ من أن يعيش القاضي في ظروف مريحة من الناحية المادية حتى يتخلص من الضغوطات من مختلف الجهات التي يمكن أن تؤثر على آداء القاضي واستقلاليته وحتى لا يتعرض شريف لظلم ولا ييأس ضعيف من عدله، فالجانب المادي مهمّ في حياة القاضي باعتباره يفصل في نزاعات وملفات تتضمّن أطرافا لها من الجاه والقدرة المادية ما يكفي للتأثير على سير القضايا وحتى لا يظلّ الباب مفتوحا أمام هؤلاء كان لزاما الاعتناء بالقاضي من الناحية المادية درءا لأية شبهات ودرءا لأية اغراءات من الممكن أنّ تطاله.
و قد نص المبدأ 61 من الشرعة الاوروبية على تحديد مقدار تعويض القضاة على نحو ” يضعهم بمناى عن الضغوطات في سبيل التأثير على وجهة قراراتهم و بشكل عام سلوكهم القضائي، مما قد يطيح باستقلالهم و حيادهم” .
الفقرة الثانية: تحديات استقلالية القضاء تواجه استقلالية القضاء تحديات عدة و لعل اهمها:
1- محاولات السلطة التنفيذية ضرب استقلالية القضاء: و ذلك عبر: – محاولة
السلطة التنفيذية التعدي على صلاحيات المجلس الاعلى للقضاء: ينص الفصل 14 من الدستور
على انه :” يضمن المجلس الأعلى للقضاء حسن سير القضاء
واحترام استقلاله. وتقترح الجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة الإصلاحات،
وتبدي الرأي في مقترحات ومشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء التي تعرض عليها وجوبا،
ويبتّ كل من المجالس الثلاثة في المسار المهني للقضاة وفي التأديب“. وينص الفصل الاول
من القانون الاساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤِرخ في 28 أفريل 2016 يتعلق بالمجلس
الأعلى للقضاء ” المجلس الأعلى للقضاء مؤسسة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها
حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية
المصادق عليها.
يتمتع المجلس
بالاستقلال الاداري والمالي والتسيير الذاتي وله السلطة الترتيبية في مجال اختصاصه”. يتمع
المجلس الاعلى للقضاء بصلاحية تنظيم حسن سير القضاء أي تنظيم العمل القضائي، فهو
الذي يختص بتوجيه مذكرات للقضاة في اطار ممارستهم لعملهم القضائي و اتخاذ
الاجراءات المناسبة كما هو الشأن في حالة تفشي فيروس كورنا، و لا دخل للسلطة
التنفيذية في ذلك.
و سعت السلطة التنفيذية الى الاعتداء على صلاحيات المجلس الاعلى للقضاء في اعتداء
صارخ على الدستور و القانون المنظم لعمل المجلس و المعايير الدولية الخاضة
باستقلال القضاء.
ففي اطار ممارسته لاختصاصه اصدر المجلس القرار الترتيبي عدد
01 لسنة 2019 المؤرّخ في 15 جانفي 2019 الميتعلق بضبط الخطط القضائيّة التي
يمارسها القضاة من الصنف العدلي. و لكن تم الالتفاف على هذه الصلاحية، حيث لم يتولى رئيس الجمهورية قيس سعيّد إمضاء الحركة
السنوية للقضاة في سلك القضاء العدلي لسنة 2019 – 2020 ، الا يناء على أمر
حكومي جديد استوعبت القرار الترتيبي.
و في اطار ممارسته لدوره
المتعلق بحسن سير مرفق القضاء وانخراطه في المجهود الوطني للتوقي من تفشي وباء
كورونا ضمن توجهات السياسة العامة للدولة وتشريعاتها قد بادر بـ :
– إصدار مذكرة
العمل الأولى بتاريخ 12 مارس 2020 تحسبا لخطر انتشار المرض بالمرفق العام القضائي
اتّخذ بموجبها بعض التدابير الاستثنائيّة المتعلقة بسير الجلسات واتخاذ القرارات
القضائية.
– إصدار مذكرة
العمل الثانية بتاريخ 15 مارس 2020 اتّخذ بموجبها جملة من التدابير الاستثنائيّة
الإضافية المتعلقة بتأجيل جميع جلسات القضايا المدنية والعقارية والجزائية
والجلسات المكتبية بما في ذلك الجلسات الصلحية وجلسات القضاء الإداري والمالي إلى
ما بعد تاريخ 4 أفريل 2020 واقتصار النظر في المادة الجزائية (تحقيق ، جناحي ،
جنائي) على قضايا الموقوفين في مجموعات لا تتجاوز عدد أفرادها خمسة أشخاص مع الحرص
على أن لا تنشر قضايا استعجالية أو ذات صبغة معاشية إلا ما كان منها شديد التأكد
ولا يحتمل التأخير ويتم النظر فيها مكتبيا .
– إصدار مذكرة
العمل الثالثة بتاريخ 04 أفريل 2020 حول سير العمل بالمحاكم بعد التمديد في مدة
الحجر الصحي العام تم بموجبها مواصلة تأجيل توقيف العمل القضائي مع الإبقاء على
سير العمل بالنسبة إلى التقاضي الأساسي المتعلق بعمل النيابة العمومية والتحقيق
وقضايا الموقوفين وقضاء الطفولة المهددة وتنفيذ العقوبات والقضايا الاستعجالية
شديدة التأكد وذات الصبغة المعاشية والتي لا تحتمل التأخير .
– إصدار مذكرة
العمل الرابعة بتاريخ 28 أفريل 2020 في إطار متابعة المجلس لتطور الوضع الوبائي
والتوجهات العامة للدولة في التعاطي مع الأزمة الوبائية وتماشيا مع إقرار التدرج
في رفع وضعية الحجر الصحي العام تم بمقتضاها التوسع في الأعمال القضائية التي لا
يشملها توقيف العمل بإدراج قضايا الموقوفين لدى النيابة والتحقيق ودوائر الاتهام
ولدى الدوائر الجنائية والجناحية بسائر أطوار التقاضي وقضايا الاستعجالي والأعمال
الولائية والتدابير الحمائية لقاضي الأسرة في علاقة بمناهضة العنف ضد المرأة
والطفولة المهددة والقضايا الإدارية التحفظية في مادة إيقاف وتأجيل التنفيذ وفي
المادة الاستعجالية والملفات الاستشارية المتأكدة وملفات النزاعات الانتخابية وزجر
أخطاء التصرف أمام محكمة المحاسبات.
و قد تدخلت
السلطة التنفيذية مرة اخرى في سير مرفق الفضاء الذي يعتبر الاختصاص الاصيل للمجلس
الاعلى للقضاء للقضاء بحسب ما ينص علية الدستور و قانون المجلس الاعلى للقضاء، و
ذلك بإصدار الأمر الحكومي عدد 208 لسنة 2020 المؤرخ في 2 ماي 2020 المتعلق بضبط
إجراءات الحجر الصحي الموجه، و الذي ينص في الفصل 4 ” يتولى وزير العدل، في إطار تنظيم
مرفق العدالة، ضبط المراحل والشروط ومجالات الاستئناف التدريجي للعمل بالمحاكم. ويتولى الرئيس الأول للمحكمة
الإدارية، في إطار تنظيم مرفق القضاء الإداري، ضبط المراحل والشروط ومجالات
الاستئناف التدريجي للعمل بالمحكمة الإدارية. كما
يتولى الرئيس الأول لمحكمة المحاسبات، في إطار تنظيم مرفق القضاء المالي، ضبط
المراحل والشروط ومجالات الاستئناف التدريجي للعمل بمحكمة المحاسبات”. و يؤاخذ على هذا الامر خرق مجال
التفويض المحدد من القانون عدد 19 لسنة 2020 المؤرخ في 12 أفريل 2020 المتعلق
بالتفويض إلى رئيس الحكومة في إصدار مراسيم لغرض مجابهة تداعيات انتشار فيروس
كورونا كوفيد-19 الذي ينص في الفصل الاول
” طبقا لأحكام الفقرة الثانية
من الفصل 70 من الدستور، يُفوّض بمقتضى هذا القانون إلى رئيس الحكومة إصدار مراسيم
لمدّة شهرين ابتداء من تاريخ دخوله حيّز النفاذ، لغرض مجابهة تداعيات انتشار فيروس
كورونا (كوفيد-19) وتأمين السير العادي للمرافق الحيوية. ولتحقيق الغرض المذكور بالفقرة الأولى من هذا الفصل، يقتصر التفويض
على الميادين الأربعة التالية:..
ثانيا: ميدان الحقوق والحريات وضبط
الجنايات والجنح والمخالفات والعقوبات والإجراءات أمام المحاكم ويشمل التدابير
الهادفة إلى: – إقرار أحكام استثنائية في الآجال والإجراءات في الدعاوى والطعون
أمام مختلف أصناف المحاكم وبصفة عامة في كل الإجراءات والآجال المتعلقة
بالالتزامات المدنية والتجارية وغيرها.
– تنظيم الحقوق والحريات بما يتلاءم مع التدابير
الوقائية المستوجبة لمقاومة تفشي فيروس كورونا وانتقال العدوى به وبما يتماشى مع
مقتضيات الفصل 49 من الدستور. – تجريم الأفعال التي من شأنها أن
تتسبب في انتشار العدوى بفيروس كورونا أو تعطيل الإجراءات المتخذة لمكافحة هذا
الفيروس ولمواجهة التداعيات المترتبة عنه وضبط العقوبات المستوجبة لردع تلك
الأفعال” .
و يعتبر استغلال التفويض الصادر من مجلس نواب
الشعب لرئيس الحكومة قصد تطويع القضاء وبسط هيمنة السلطة التنفيذية عليه في تعارض
تام مع جميع المعايير الدولية لاستقلال السلطة القضائية. كما ان ما يثير الاستغراب
في الامر الحكومي هو التمييز بين الاقضية الثلاثة، ففي حين منح لوزير العل تنظيم
مرفق القضاء العدلي، منح للرئيس الاول للمحكمة الادارية تسيير مرفق القضاء
الاداري، و منح للرئيس الاول لمحكمة المحاسبات تسيير مرفق القضاء المالي. و هو
تقويض لمبدأ وحدة الاقضية. اليس
كان من باب اولى و احرى منح صلاحية تسيير مرفق القضاء الاداري و العدلي و المالي للمجلس الاعلى للقضاء الذي
ينكون حسب الفصل 112 من الدستور” من أربعة هياكل هي مجلس القضاء العدلي،
ومجلس القضاء الإداري، ومجلس القضاء المالي، والجلسة العامة للمجالس القضائية
الثلاثة”. او ليس في هذا الامر الحكومي غاية غير بريئة؟ و قد صدر بالفعل
بلاغ بتاريخ 3 ماي 2020 عن وزارة العدل بلاغ يتعلق بضبط إجراءات الحجر الصحي الموجه، و هو
مخالف لأحكام الفصل 65 من الدستور الذي ينص على ” تتخذ شكل قوانين عادية النصوص
المتعلقة بـ:
– الإجراءات أمام مختلف
أصناف المحاكم
– ضبط الجنايات والجنح والعقوبات
المنطبقة عليها وكذلك المخالفات المستوجبة لعقوبة سالبة للحرية
تتخذ شكل قوانين أساسية النصوص
المتعلقة بالمسائل التالية:
– تنظيم العدالة والقضاء”.
و هو
يتعارض كذلك مع احكام المرسوم عدد 8 المؤرخ في 17 أفريل 2020
والمتعلق بتعليق الإجراءات والآجال، و الذي نص في الفصل الأول ” تُعلّق الإجراءات والآجال المنصوص عليها
بالنصوص القانونية الجاري بها العمل وخاصة تلك المتعلقة برفع الدعاوى وتقييدها
ونشرها واستدعاء الخصوم والإدخال والتداخل والطعون مهما كانت طبيعتها والتبيلغ
والتنابيه والمطالب والإعلامات ومذكرات الطعن والدفاع والتصاريح والترسيم
والإشهارات والتحيين والتنفيذ والتقادم والسقوط. كما تعلق الآجال والإجراءات
المتعلقة بالالتزامات المعلقة على شرط أو أجل. وتعلق آجال وإجراءات التسوية
والتتبع والتنفيذ المتعلقة بالشيكات. ويترتب
عن التعليق توقف سريان جميع الفوائض وغرامات التأخير والخطايا” و نص في الفصل 2
” يسري التعليق المشار إليه بالفصل الأول من هذا المرسوم بداية من 11 مارس
2020 ويُستأنف احتساب الآجال المذكورة بعد شهر من تاريخ نشر أمر حكومي في الغرض. الفصل 3
ـ لا تنطبق أحكام هذا المرسوم على آجال الطعن المتعلقة بقضايا الموقوفين وآجال
الاحتفاظ والإيقاف التحفظي وإجراءات التنفيذ الخاصة بالمفتش عنهم وآجال التتبع
وسقوط العقوبات”. فكيف تستأنف
القضايا و قد تم تعليق الاجال
و الاجراءات و الحال انها لن تستأنف الا يوم 2 جوان 2020 ؟ و
قد تصدى المجلس الاعلى للقضاء لهذه الانحرافات و ارجع الامور الى نصابها، حيث جاء
في بلاغ صادر عنه بتاريخ 3 ماي 2020 رفضه للأمر عدد 208 باعتباره يمثل اعتداء على
صلاحياته باعتباره المؤسسة الدستورية الضامنة لحسن سير القضاء و احترام استقلاله .
و دعا عموم القضاة الى العمل
بالمذكرة الصادرة عن المجلس في 28 افريل 2020 دون سواها، و هو موقف سليم يتطابق مع
روح الدستور والقانون الاساسي
عدد 34 لسنة 2016 المؤِرخ في 28 أفريل 2016 المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاءن و
المعايير الدولية لاستقلال القضاء. –
نزع سلطة القضاء في الاشراف على كتابة المحكمة: صدر امر حكومي عدد 420 لسنة 2018 مؤرخ في مؤرخ في 7 ماي 2018 يتعلق
بتنظيم كتابات المحاكم من الصنف العدلي وضبط شروط إسناد الخطط الوظيفية الخاصّة
بها والإعفاء منها، و الذي تم اعتماده لنزع سلطة القضاء على كتابة المحكمة رغم انه
لم يتضمن الا فصلا وحيدا و هو الفصل 44 الذي ينص على انه ” يتم الإعفاء من خطة رئيس قسم ورئيس قسم
مساعد بمقتضى قرار من وزير العدل على أساس تقرير كتابي صادر عن رئيس الكتابة أو
المدير الجهوي للعدل الذي يمارس سلطة التسلسل أو الإشراف الإداري يوجه إلى كاتب
المحكمة المعني بالأمر لتقديم ملاحظاته الكتابية”. و لا
يفهم منه اطلاقا ان الكتابة اصبحت مستقلة عن القضاء. وهو كذلك مخالف للقانون عدد 29 لسنة 1967 مؤرّخ في 14 جويلية
1967 يتعلق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء
والقانون الأساسي للقضاة الذي ينص في الفصل 5 ” لكل
محكمة كتابة تكون تحت سلطة رئيس كتابة المحكمة ومسؤوليته و تحت رقابة رئيس المحكمة
و رئيس النيابة العمومية كل فيما يخصه، و
تكون كتابة محكمة الناحية تحت سلطة قاضي الناحية مباشرة”. فكيف لامر حكومي ان
ينقح قانون اساسي؟ فيا خيبة المسعى من امة ضحكت من جهلها الامم. و هل انقلبت نظرية
كلسن في هرمية القوانين؟
و هذا الامر دبر بليل و هو جاء في اطار محاولة السلطة التنفيذية اضعاف
القضاء. و قد نتج عن ذلك عدة اشكاليات واقعية لم تكن تحصل من قبل، حيث ان علاقة
الكاتب بالقاضي كان يسودها دائما الود و الاحترام و العمل المشترك من اجل مصلحة المتقاضي
و تحقيق العدل. و قد تم الطعن في هذا
الامر من قبل جمعية القضاة التونسيين امام المحكمة الادارية بسبب عدم المشروعية. – رئاسة وزير العدل للنيابة العمومية: نص
لفصل 15 من القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 جويلية 1967
المتعلّق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة” قضاة قلم الادّعاء العام خاضعون
لإدارة ومراقبة رؤسائهم المباشرين ولسلطة وزير العدل. أمّا أثناء الجلسة فلهم حريّة
الكلام”. و هو ما يعزز تدخل السلطة التنفيذية في
العمل القضائي، و يضرب مبدأ الاستقلالية. – تبعية التفقدية العامة
لوزير العدل: وفقا للفصل 24 من الامر
عدد 3152 لسنة 2010 المؤرخ في 1 ديسمبر 2010 المتعلق بتنظيم وزارة العدل وحقوق
الإنسان تقوم التفقدية العامة تحت سلطة الوزير
مباشرة بمهمة تفقد لكل المحاكم ولجميع مصالح الوزارة والمؤسسات الخاضعة لإشرافها
باستثناء محكمة التعقيب. و تقوم بالأبحاث الإدارية والتأديبية التي
يعهدها لها الوزير. و هو ما يفتح المجال امام تدخل السلطة التنفيذية ممثلة في وزير
العدل في سير القضاء. و يتجه بالتالي اصدار قانون جديد
للتفقدية العامة للشؤون القضائية، و الحاق
التفقدية بالمجلس الاعلى للقضاء. – –
المماطلة في سن قانوني اساسي جديد للقضاة: لقد اصبح القانون عدد 29 لسنة
1967 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلّق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء
والقانون الأساسي للقضاة باليا، لا يستجيب للمعايير الدولية لاستقلال القضاء، ولم يكن فيه مفهوم السلطة
القضائية.” و رغم مرور اكثر من 10 سنوات على قيام الثورة،
لم يقع الى حد الآن سن قانون اساسي جديد للقضاة يكون في مستوى تطلعات المهمة
القضائية يتضمن سلم تأجير مناسب و محترم.
2– وضع مادي متردي: إن الراتب الذي يتقاضاه القاضي لا
يحقق الأمان المالي للقضاة، ولا يساهم في بناء سلطة قضائية قوية، فهو يعادل 2500
دينار تونسي اي اقل من 1000 دولار شهريا. و يعتبر منخفض جدا مقارنة بدول العالم وحتى دول
الجوار مثل الجزائر والمغرب ومصر…، ففي حال ألقينا نظرة على رواتب القضاة حول
العالم، فإننا نجد تونس في ذيل القائمة حيث يتقاضى القاضي الفرنسي حوالي 62000
دولار سنويا والإسباني حوالي 152000 دولار سنويا والبريطاني 147000 دولار سنويا
والكندي 271000 دولار سنويا.
و لا بد من نظام تأجير خاصّ طبقًا للمعايير الدولية باعتبار
ذلك من أهمّ ضمانات استقلالية القضاة، وخاصة بالنظر إلى حجم العمل القضائي
المتزايد ومشقة الوظيفة القضائية، وتشعب النزاعات بأصنافها. و
يمتع القاضي بمنحة انتاج زهيدة تثير السخرية، و لا ترتقي الى مكانة السلطة القضائية.
و
رغم صدور الامر الحكومي عدد 654 لسنة 2019 مؤرخ في 5
أوت 2019 المتعلق بضبط شروط كيفية صرف منحة الأعباء الإضافية للقضاة المؤمنين لحصص
الاستمرار طبقا للقانون عدد 05 لسنة 2016 المؤرخ في 16 فيفري 2016 المنقح لمجلة
الإجراءات الجزائية، إلا أنه لم يقع صرف المستحقات الى حد الآن. علما وانه صدر امر
يتعلق بصرف منحة لفائدة المحامين الذين يقع تسخيرهم لنيابة المتهمين المحتفظ بهم منذ
سنة 2019 و يصرف لهم المنحة
منذ ذلك التاريخ. فلماذا هذا الكيل بمكيالين؟
و لماذا هذا التجاهل والإجحاف بالحقوق المشروعة للقضاة من
نيابة عمومية و تحقيق يسهرون الليل من اجل السهر على حماية المجتمع و تطبيق
القانون على المجرمين.
3– بنية تحتية كارثية و ظروف عمل غير مناسبة: تجدر الاشارة الى ان وضعية للمرفق القضائي
كارثية نتيجة ترهل البنية التحتية لأغلب المقرات وشدة ضيقها، فمقرات المحاكم وقاعات الجلسات أصبحت متآكلة، و تنعدم وسائل
النقل ، و يفتقد القاضي في المحكمة الى ادنى المرافق الاساسية مثل دورة مياه. فكيف
سيقع تطبيق المحاكمات عن بعد و اغلب المحاكم غير مجهزة بوسائل الاتصال السمعي
البصري و الانترنت؟ 4- مفهوم مغلوط لمرسوم المحاماة: ينص الفصل 105 من الدستور” المحاماة مهنة حرة مستقلة تشارك في إقامة العدل
والدفاع عن الحقوق والحريات. يتمتع المحامي بالضمانات القانونية التي تكفل
حمايته وتمكنه من تأدية مهامه”، فإقامة العدل تقتضي شراكة حقيقية بين القاضي
الذي يفصل النزاع طبق اوراقه في احترام لهيئة الدفاع و ما يقتضيه القانون من جهة و
المحامي الذي يتولى الدفاع عن منوبه في احترام لهيئة المحكمة دون ضغط او ترهيب من
جهة اخرى. و لكن نلاحظ انه تم في العديد من المناسبات الضغط على القضاء من طرف
المحامين ( المحكمة الابتدائية بتونس1- سوسة 1-
المهدية- محكمة الاستئناف بصفاقس…)، و ما صدر عنهم من بيانات في الرد على
مذكرة المجلس الاعلى للقضاء من التلويح بالقيام بوقفات احتجاجية، مما مس من
استقلالية القضاء. وهو ما دفعني الى التعريج على مرسوم المحاماة عدد 79 لسنة 2011
. لقد صدر المرسوم عدد 79 لسنة 2011 مؤرخ في 20 أوت 2011 المتعلق بتنظيم مهنة
المحاماة. و لم تقع المصادقة عليه الى حد الآن. و في
القانون الدستوري فان المراسيم التي يتخذها رئيس الجمهورية تقتضي عرضها على مجلس
النواب في اول دورة نيابية، و هو ما لم يحصل، ولا توجد مراسيم نافذة الى الابد. نص الفصل 46 من المرسوم انه” إذا وقعت تتبعات جزائية ضد محام،
يتم إعلام رئيس الفرع الجهوي المختص بذلك حينا. ويحال المحامي وجوبا من طرف الوكيل
العام لدى محكمة الاستئناف على قاضي التحقيق الذي يتولى بحثه في موضوع التتبع
بحضور رئيس الفرع المختص أو من ينيبه للغرض.
ولا يجوز تفتيش مكتب المحامي إلا في حالة التلبس وبعد إعلام رئيس
الفرع الجهوي المختص.
ولا تباشر أعمال التفتيش إلا بحضور
المحامي وقاضي التحقيق ورئيس الفرع أو من ينيبه للغرض. ولا يشترط حضور المحامي إذا
كان بحالة فرار. وتسري هذه الأحكام على مكاتب الهيئة الوطنية للمحامين وفروعها. وعلى قاضي التحقيق تحديد مناط بحثه ونوعية الوثائق أو الأدلة التي
يروم حجزها. ولا يمكنه الاطلاع على ملفات أو وثائق لا صلة لها بالقضية موضوع تعهده
أو حجزها.
وفي حالة التلبس يقوم مأمورو الضابطة العدلية بكل الإجراءات ما عدا
سماع المحامي. ويتعين في جميع الأحوال على قاضي التحقيق أو أعوان الضابطة العدلية
المباشرون للتفتيش أن يلتزموا بحدود ما له ارتباط وثيق بالجريمة. وتبطل جميع الأعمال والإجراءات المخالفة لما سبق بيانه”.
فالفصل 46 من المرسوم فرق بين حالة التلبس و حالة غير
التلبس. في
حالة التلبس التي عرفها الفصل 33 من مجلة الاجراءات الجزائية” تكون الجناية أو الجنحة متلبسا بها : أولا :
إذا كانت مباشرة الفعل في الحال أو قريبة من الحال. ثانيا : إذا طارد
الجمهور ذا الشبهة صائحا وراءه أو وجد هذا الأخير حاملا لأمتعة أو وجدت به آثار أو
علامات تدل على احتمال إدانته، بشرط وقوع ذلك في زمن قريب جدا من زمن وقوع الفعلة.
وتشبه الجناية أو الجنحة المتلبس بها كل جناية أو جنحة اقترفت بمحل سكنى استنجد
صاحبه بأحد مأموري الضابطة العدلية لمعاينتها ولو لم يحصل ارتكابها في الظروف
المبينة بالفقرة السابقة، فأنه يجوز للنيابة العمومية الاحتفاظ بالمحامي. فهل من
المعقول ان يرتكب محامي جريمة قتل و يبقى بحالة سراح؟ و هل هذا يتطابق مع مبدأ
المساواة في تطبيق القانون و عدم الافلات من العقاب؟ فكبف للمحامي ان لا يحتفظ به
في حالة التلبس و لو ارتكب جريمة قتل عمد او غيرها من الجرائم الخطيرة؟ و الحال أن القاضي يمكن ايقافه في حالة التلبس،
حيث يننص الفصل 104 من
الدستور” يتمتع القاضي بحصانة جزائية، ولا يمكن تتبعه أو إيقافه ما لم ترفع
عنه، وفي حالة التلبس بجريمة يجوز إيقافه وإعلام مجلس القضاء الراجع إليه بالنظر
الذي يبت في مطلب رفع الحصانة”، و عضو مجلس نواب الشعب الذي يمكن ايقافه ايضا
في حالة التلبس بصريح الفصل 69 من الدستور الذي
ينص على انه ” إذا اعتصم النائب
بالحصانة الجزائية كتابة، فإنه لا يمكن تتبعه أو إيقافه طيلة مدة نيابته في تهمة
جزائية ما لم ترفع عنه الحصانة. أما في حالة التلبس بالجريمة فإنه يمكن إيقافه،
ويُعلم رئيس المجلس حالا على أن ينتهي الإيقاف إذا طلب مكتب المجلس ذلك”. و تجدر الاشارة الى
انه بقراءة للفصل 46 من المرسوم يقصد ب” ويحال المحامي
وجوبا من طرف الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف على قاضي التحقيق الذي يتولى بحثه
في موضوع التتبع بحضور رئيس الفرع المختص أو من ينيبه للغرض”، ان الوكيل
العام يتعهد بالاحالة أي فتح التحقيق فقط، غير ان البحث الاولي يبقي من اختصاص
النيابة العمومية طبق مقتضيات الفصل 20 من مجلة الاجراءات الجزائية الذي ينص على
ان ” النيابة العمومية تثير الدعوى العمومية وتمارسها كما تطلب تطبيق
القانون، وتتولى تنفيذ الأحكام”.
كذلك فان الفصل 46 من المرسوم المشار اليه ينص على” وفي حالة التلبس يقوم مأمورو الضابطة العدلية بكل
الإجراءات ما عدا سماع المحامي” و ما يعني ان مامور الضابطة العدلية يمكن له
بعد اذن النيابة الاحتفاظ بمحامي في حالة ضبطه متلبسا بارتكاب جريمة”، لكن
دون سماعه”. اما
بخصوص الفصل 47 من المرسوم الذي ينص
على” لا تترتب عن الأعمال والمرافعات
والتقارير المنجزة من المحامي أثناء مباشرته لمهنته أو بمناسبتها أية دعوى ضده، ولا
يتعرض المحامي تجاه الهيئات والسلطات والمؤسسات التي يمارس مهنته أمامها إلا
للمساءلة التأديبية وفق أحكام هذا المرسوم.”،
لا يقهم منها انها تتعلق بعد مؤاخذته مطلقا اذا خرج في مرافعته او تقاريره عن
الاداب العامة او الاخلاق العامة او مس من هيبة المحكمة، فيمكن حينئذ تتبعه
جزائيا. و
قد اعتبرت محكمة التعقيب في قرارها التعقيبي عدد 3528-2013 الصادر بتاريخ 26 ماي
2014 ان عدم مؤاخذة المحامي اثناء المرافعة ليست مطلقة اذا صدر عنه ما يشكل جريمة.
الخاتمة: القضاة فداء للوطن مستعدون للتضحية بانفسهم و اوقاتهم و عائلاتهم في وقت وباء كورونا او غيره من الاوقات، في اطار تحقيق العدل و امن و استقرار المجتمع، لا يطالب الا بالاستقلالية التي هي مطلب الشعب و المتقاضين قبل ان يكون من نصيب القاضي. أن وجود سلطة قضائية مستقلة هو ضرورة ملحة في أي مجتمع لأنه يعني وجود ضمانة قوية لسلامة تطبيق القانون في حياد وموضوعية وفي مواجهة كل أطراف المنازعات، وسواء كانت تلك المنازعات بين الأفراد وبعضهم البعض، أو كانت بين الأفراد وبعض أجهزة الدولة ومؤسساتها. و هو ما يتطلب بصفة متأكدة:
– التزام السلطة التنفيذية بمبدأ الفصل بين السلط و احترام الدستور و القانون و ذلك باحترام صلاحيات المجلس الاعلى للقضاء.
– التضامن الكلي و اللامشروط مع المجلس الاعلى للقضاء من قبل جميع القضاة التابعين للاقضية الثلاثة، في التصدي لكل انحراف. و تعبيرا عن وحدة الاقضية و تضامنها في سبيل تحقيق سلطة القانون.
– العمل على سن قانون اساسي جديد للقضاة يتضمن تأجير خاص للقضاة، كسن قانون
جديد للتفقدية العامة. – استقلالية النيابة العمومية عن السلطة التنفيذية و احداث جهاز الشرطة العدلية تابعين لوزارة العدل و يعملون تحت اشراف النيابة العمومية مباشرة. – العمل على ارجاع الامور الى نصابها بخصوص الامر الحكومي عدد 420 لسنة 2018 مؤرخ في 7 ماي 2018 المتتعلق بتنظيم كتابات المحاكم من الصنف العدلي وضبط شروط إسناد الخطط الوظيفية الخاصّة بها والإعفاء منها، لمخالفته للقانون. – منح المحاكم الاستقلالية المالية و الادارية – تركيز المحكمة الدستورية التي تختص دون سواها بمراقبة دستورية القوانين حسب منطوق الفصل 120 من الدستور، لمراقبة دستورية القوانين.